تملي عليّ المسئولية الأخلاقية الوطنية والرغبة الحريصة على استقرار هذا الوطن ووحدة أبنائه أن أوجه أصابع النقد والكشف والتقويم إلى قوى المعارضة الإصلاحية الوطنية مثلما أوجهها إلى أطراف السلطة والحكومة والدولة من دون كلل وملل، وإن كانت استراتيجية «التطنيش» و«الأذن الصمخة» هي سيدة المواقف والردود على ما يوجه من انتقادات للسلطة والحكومة!
وعلى رغم كون الدولة والسلطة بقوة ونفوذ صلاحياتها الواسعة تتحمل الكثير والكثير من مسئوليات وأدوار وأوزار عن ما آل إليه وضع المواطن والمواطنة في هذه البلاد، ولدوام بقاء الأزمات والقضايا الوطنية الكبرى بلا حل أو معالجة حقيقية وجدية منذ مطلع السبعينات في القرن الماضي وحتى الآن بعد انفراجة سياسية تلتها انتكاسة وتفسخ وطني مصطنع لا يعرف له من قرار إلا أن ذلك لا يعني أن المعارضة ليس لها هي الأخرى نصيب ولو أقل نسبيا بكثير من تلك المسئولية!
وإن كان من وجود لثغرة وفجوة في بنيان الخطابات السياسية الصادرة باسم المعارضة و«الأحرار» والإصلاحيين وغيرهم جدير بالتذكير والكشف فهي تلك المتعلقة بالانتشاء والانتعاش بالسكرة التسعينية المصابة بها أطراف وقوى عديدة من المعارضة أكانت ذات الإطار الطائفي أو حتى المحسوبة والمصنفة ضمن «التيار الوطني الديمقراطي» التي ما زال بعض كوادرها لم يستفق من غيبوبته الستينية والسبعينية والثمانينية والتسعينية، وهو أمر خطير ويترك فراغات كبرى بين النظر والعمل السياسي، ويوهن من مفاصل الخطابات السياسية لقوى المعارضة أيا كان توجهها لكون عوالم السياسة، وإن استحسن ولوجها بذخيرة مبدئية وأخلاقية تدعم وتسند وتؤصل لمحتويات الخطاب السياسي وتشرعن تكتيكاته المرحلية ، إلا أنه لا يمكن أن توجد فيها قوالب نمطية ثابتة وجامدة تهيمن على حركة نمو وتطور هذه الخطابات السياسية المضطرة لأن تتأقلم وتتكيف مع المتغيرات السياسية الجوهرية الجديدة والطارئة عسى أن لا تصاب بتصلب الشرايين وتخثر الدم ما يفقد تلك الخطابات حيويتها العملية والواقعية، ويؤهلها لأن تكون شعارات فارغة مضمونا أو أحافير ومستحثات تعلق في متاحف النضال التي يوجد لها أمناؤها ومتسلقوها ومتصنعوها بالمثل، وما أكثرهم بيننا!
وإن كنا قد تطرقنا سابقا في مقالنا « عقلية التسعينات ترزح في تضاعيف الألفية الثانية!» إلى خطورة الاستمرار بالانتعاش القاتل من سكرة النوستالاجيا التسعينية تلك حد الثمالة على حساب الواقع السياسي المحلي ومتغيراته خصوصاُ فيما يتعلق بمراكز القوى والنفوذ والتحريك السياسي والاجتماعي في الواقع المحلي، إلا أننا وامتدادا لما كتبناه بشأن أثر تلك السكرات النوستالاجية التسعينية على شارع المعارضة وخصوصا جماهير فئاته الدنيا وغوغائه بحسب المسمى والتصنيف الاجتماعي التي لا ينكر أن لها دورا فاعلا ومؤثرا في التفعيل والاحتكاك المباشر، فإننا نواصل تعليقنا لما تقدمه الكتابات على الجدران و»الحيطان» في القرى من صورة ملفتة لحجم الانغماس الشعبي في تلك السطحية والجاهلية السياسية والتيه في غابة من الشعارات الكلاسيكية لا أول لها ولا آخر أكانت مكتوبة بالعربي أم الإنجليزي!
فهذه الكتابات الحائطية «طوفة غازيت» بغض النظر عن هوية صاحبها وكاتبها، والتي يراها ويقرأها العابر بسيارته إما كصحيفة صباحية أو مسائية، أو كمجلة ودورية، فإنها وبشكل عام لا تزال بعناوينها وشعاراتها الرنانة أسيرة للمرحلة الماضية والمنصرمة التي ربما لم يكن يواجه فيها الوطن والمواطن حجما كميا ونوعيا من المخاطر المحيقة والمدمرة أضعاف ما يواجهه الآن في مرحلة الانفراج أو الانفجار السياسي!
ولن تتعجب وتستغرب حينما تلمس في تلك الشعارات الشوارعية والحائطية التي يتخذها الكثير كأيقونات سياسية، وهي حتما ظاهرة ليست عبثية وطارئة وآتية من فراغ، وتلمس من خلالها ملامح وأعراض فقر الدم السياسي والمعيشي المنجلي الذي يخضعها لضغط دائم للترحيب بالحلول الانفلاتية الطائشة حينما تتخثر الدماء في رقبة المشروع الإصلاحي، وتتعسر طريق العبور السياسي نحو مرحلة أخرى، وكأنما لا بديل لحجم الذل والهوان سوى نارا تلظى!
هذه الكتابات الحائطية المسنودة بأرتال من خطابات وأقوال بعض قيادات المعارضة والخطباء والبلاغيين السياسيين المصنفين ضمن المعارضة مازالت تتشبث بمهاجمتها لإحدى رموز السلطة ذات الدور الكبير في المرحلة السابقة، هذا إن لم تعد إلى زمن يزيد بن معاوية وتمر على قبر صدام حسين وأدولف هتلر وتضع بينهم جاسم السعيدي لتسقط عليهم، بعبثية أيضا تفتقد الحصافة والاطلاع السياسي الواقعي، عبء جميع قضايا الوطن وأزماته ومشكلاته بما في ذلك التمييز الطائفي المركب والتجنيس السياسي والمعاناة جراء افتراق الوطن عن المواطن وما يسود بينهما من بحور اغتراب!
فهؤلاء الرموز والأيقونات جميعا «أعداء أزليين للشعب» بحسب بعض الخطابات السياسية لبعض قوى المعارضة، وذلك في جميع المراحل بغض النظر عن مختلف الفروقات الجوهرية، وهو ما يدل على حجم التيه والضياع الذي يرزح فيه عبء الوعي السياسي الأصيل!
فعلى الرغم من انقضاء تلك المرحلة بما شهدناه خلالها من حوادث مأسوية وما ارتكب فيها من جرائم ضد الإنسانية إلا أنها في اعتقادي وعلى رغم هيمنة الطابع الأوتوقراطي السلطوي الوطني في إدارة وتسيير الأمور آنذاك إلا أنه يظل في اعتقادي الشخصي أرحم بكثير لحال الوطن والمواطن لما يعانيه الوطن والمواطنون في الوقت الجاري من استشراء طائفي وعنصري رهيب وغير مسبوق تاريخيا الأمر الذي شجع على بروز أعمال السخرة السياسية الطائفية بشكل آخر عن سابقه تاريخيا!
وعلى رغم ازدحام تلك الخطابات الانفعالية الغوغائية والأيقونات السياسية المصمتة والمعلقة وتهافتها وتشعبها على مفترق السبل والمسالك السياسية فإنها لاتزال متميزة بكونها تغض الطرف ربما عن سطحية وجهل سياسي مفترض بمواقع النفوذ ومراكز القوة في اللعبة السياسية الجديدة، أو لكونها تتغافل بحسب مقاصد سياسية متعددة عن ذكر البعض ممن يستحق من دون غيره لقب عدو الشعب والوطن لكونه يأتي ضمن الرعاة الطغاة للتمييز الطائفي والتمييز الإثني في هذا البلد، فهو الذي لا يعوقه عن المباشرة في الانعكاف على تكريس هاجسه الأولي في التمييز الإثني سوى الانشغال بتمييز طائفي أكثر رحابة وشمولية، ولا مناص من العودة إلى مربع التمييز والإقصاء الأول إذا ما نفذ التكتيك السياسي المرحلي غرضيته الطائفية واستنفدها!
ومع تسليمنا ببديهية أن أيقونة الشر والدمار البارزة هذه والمدلاة على سطوح المعابد وأمثالها الكثير لم تأت إلا كإضافة نوعية عنيفة ومتأخرة لسجل تاريخي من التمييز والمحاصصة، إلا أن ما حققته تلك الأيقونة والشمعة السوداء من «فناتق» وإبداعات سياسية طائفية تسلطية في فترة قياسية جدا أثبت أن هذه الأيقونة قد باتت تؤسس لوحدها مرحلة قائمة بذاتها من التمييز الطائفي والتشطير العمودي للمجتمع الواحد في البلاد عبر إدمان الاستغلال السياسي لأبناء طائفة ضمن عرق واحد ضد طائفة أخرى عسى أن يولد صدام البيادق ذاك مزيدا من التمييز والتشطير الذي تشرق بنار دماره تلك الأيقونة وتزداد بهاء ونفوذا، فكان لها قصب السبق في احتقار الشعب وتكريس رؤية تتخذ من روحه غرضا ومنفضة للأحقاد، فهي ترى فيه مكونا من الشحاذين والطبالين والمتسولين فتبزه برماد من «رحمة» و«حنو» تلقمه له مخلوطا بدقيق الفقر والجوع!
أيقونة الحقد الطائفي والعرقي هذه بكل ما تحفل به من عجرفة وغرور وتباه وتعال على رؤوس الأقوام وبكل ما تتبعه خاسئة من أساليب دنيئة وقذرة في تصفية الخصوم الوطنيين غير المرغوب فيهم لم تكن لتتورع عن أن تعلن مجلجلة وبنغمة رنانة عن طائفيتها بأفضل الإيقاعات والألحان طالما لم تجد لها من رادع وصاد فعلا أو قولا، فظلت ولا تزال تعيش وترتوي وتزدهر بدماء وعذابات وآلام المواطنين طالما كان ومازال بعض أطراف المعارضة تقتدي بالحكومة والدولة فتمارس هي الأخرى «التطنيش» أيضا في هذه النواحي إما عزة بالإثم أو جهلا أو خيفة!
فتكون مثل تلك الكتابات الحائطية كنموذج وحالة تعبر عن سكرة التسعينات وثمالتها أكبر خادم ومعين و»فداوي» مطيع لأيقونة الحقد والشر تلك التي تعادي الوطن والشعب وتصادق أغبيائه وتصنع منهم وجهاء وعباقرة ومفكرون ونشطاء مما يجعلنا نعتقد بأننا نعيش في العصر الذهبي للـ «مخديين»!
فمثل ردود الفعل والشعارات السياسية تلك غير المدروسة تحقق فوائد سياسية جمة لآليات الصراع السياسي على النفوذ السلطوي والمجتمعي بشكل قد يحيل الأوضاع إلى ما هو أسوأ، وقد لا يخدم مصلحة الوطن والمواطنين ومعها المصالح السياسية الثانوية لبعض أطراف المعارضة ذاتها طالما غاب النظر عن البديل المستقبلي الموجود، ولم تدرك بعض القيادات المعارضة بأن خصم وعدو الأمس قد يصبح أفضل صديق اليوم إذا ما تزاحم على الوطن والشعب أعتى وألد أعدائه، وهذه حكمة سياسية براغماتية لابد أن تعيها الأطراف كافة، حتى لا ترتكب المزيد من الحماقات السياسية بحسن نية، فأنا لدي أن تنقلب تلك القيادات السياسية للمعارضة والمرتدية لمعاطفها القديمة على ثوابتها خيرا لها ألف مرة من أن تدمن تضييع البوصلة، وتفقد القدرة على التمييز بين الأسود والرمادي، فيزداد الإحباط وتحصد الخيبات المريرة!
أنا ومن خلال هجومي على أصحاب السكرة التسعينية تلك لا أدعو إلى أن نتخلى عن شهداء المراحل النضالية التاريخية السابقة، فهم شموعنا ورموز ذاكرتنا النضالية الوطنية المغيبة، ولكن أرفض بحزم أن ننبش قبورهم ونرمي رفاتهم الطاهرة في محارق هيجاناتنا السياسية في هذه المرحلة الخطيرة بالذات، وأن يضحى بأبنائهم على مذابح أسوأ بكثير من مذابح التسعينات وما قبلها، فهذه المذابح الحديثة لا تخلد أثرا ولا وطنا ولا طائفة أو فئة منصورة!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1802 - الأحد 12 أغسطس 2007م الموافق 28 رجب 1428هـ