قبل عدّة سنوات، أبدى زميل أجنبي لي في العمل دهشته من أخلاق البحرينيين، واستغرب متسائلا: كيف يقف البحرينيان اللذان اصطدما في حادث مروري يتجاذبان أطراف الحديث، ويتبادلان الضحكات وهما ينتظران مجيء شرطي المرور؟ وواصل قائلا: هل تعلم ماذا يحدث في بلدنا؟ تنشب معارك بالأيدي وربما أكثر إذا اصطدمت سيارتان؟
تذكرت هذا الموقف حين كتب رئيس تحرير «الوسط» مقالا عن بعض المجنسين (ضع خطا غليظا تحت كلمة بعض)، فسارع هؤلاء، في ردّة فعل متسرعة ومليئة بالتشنج، فحققوا أمرين، الأمر الأول عرّفوا بأنفسهم، إذ إن رئيس التحرير لم يذكرهم بالاسم كما ذكروه هم، والأمر الثاني والأهم، عرّفوا بحقيقة سجاياهم وطينتهم، ولولا رّدة فعلهم من موقع الجريدة الإلكتروني ةالتي يديرونها من لندن، المدفوعة الأجر من البحرين، لما عرفنا ذلك كله، ولكن كما في المثل الشعبي: (إللي على رأس بطحة، يتحسسها)، فهم (يحسبون كل صيحة عليهم).
ردّة فعلهم هذه، شاهد على خطورة هذا النوع من البشر على نسيج مجتمعنا، إذ أظهرت حقيقة ما يجول في الخواطر من توجسات تجاه تجنيسهم، فالغلظة في المعاملة، وفظاظة الأخلاق، والقسوة الظاهرة في ردودهم تكفي لإدراك قوة النزعة الأعرابية المادية كما في وصف القرآن الكريم: «الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر على أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله» (التوبة:97). وحتى لا نضيع بوصلة الصراع، فما سبق لا يشمل كل المجنسين، بل بعضهم.
وحتى هذا البعض، فإن المشكلة ليست معهم، إنما مع من يعتبر المال معيارا أوحدا لبيع وشراء الولاء. ومن المثير للتساؤل، أن تسعى بعض الجهات الرسمية لزق هذا المبدأ اللا أخلاقي في وريد هذا الوطن، ولذلك لا نستغرب أن يقفز للذهن ذلك التقرير المخيف، ليجيب على مثل هذه الإثارة، فقد يكون ذلك، أحد متطلبات مرحلة من مراحل تحقيق الإقصاء والتهميش الطائفي. والمسألة تتعلق بالمحافظة على بقاء النفوذ الظالم لبعض الفئات التي تتطلب عدّة أمور، منها اللعب على التناقضات المجتمعية، وإطالة أمد المشاحنات الفئوية والطائفية، ونشر ثقافة التملق وشراء الذمم بالمال، بدلا من ثقافة الإخلاص والصدق التي تقود لتنظيم النفوذ والسلطة على المدى البعيد، وتحقق التوازن بين سلطة الحكومة وسلطة الشعب. إلى جانب ذلك كله، إنتاج جيل من الناس سيظلون لمدّة ليست بالقصيرة، وقبل أن يصبحوا جزءا من الشعب، يبحثون عن مصالحهم مع من استجلبهم، خصوصا مع الشحن القائم على النزعة الطائفية، الذي يتلقونه من بعض الجهات التي تنسب رفض جسد هذا الوطن لهم، لفئة معينة، والادعاء أنها تتربص بهم الدوائر، لتنزع من أيديهم ما نالوه من مكاسب. وليس من باب المصادفة أن يكون بعض المجنسين، قد أُستقدموا من مناطق نشأوا فيها منذ قرون متمادية، على حقد متأصل تجاه طائفة من طائفتي هذا البلد الكريمتين، وبذلك تجتمع النزعة نحو المادة التي أغرتهم بالقدوم، مع نزعة دينية، وينتج عن تزاوج هاتين النزعتين، حركة تلقائية إقصائية نحو تشطير المجتمع في أي موقع يطئونه، على أسس طائفية وفئوية من دون توجيه مباشر.
ويوما بعد يوم، فإن مثل هذه الحوادث والمواقف وغيرها، خصوصا التمييز على كل المستويات، والمكشوف لحد الوقاحة، كحرمان طائفة معينة من بعثات الدراسات العليا في وزارة التربية، والسعي لجلب تربويين من الأردن، في الوقت الذي يضج البلد بمأساة تعطّل أعداد كبيرة من التربويين البحرينيين... فهذه وغيرها من ممارسات تؤكد ما جاء في ذلك التقرير المخيف، وتعمّق الشعور المرير بوجود مؤامرة حقيقية دفعت رمزا كبيرا كالسيد عبد الله الغريفي إلى القول إننا نشعر بأن الأرض تهتز من تحت أقدامنا. ويتكرس الشعور بالمؤامرة، ليتحول نتيجة مثل هذه الحوادث والمواقف التي تتفجر بين فينة وأخرى، لاعتقاد يقيني جازم بوجودها. بجانب ذلك، فإن الإبقاء على بعض رموز الحقبة الظلامية في مراكزهم، وخصوصا بعض رجال الجهاز الأمني الذين ثبت تورطهم في التعذيب، كلها رسائل تقول إن بعض الجهات الرسمية ماضية في تنفيذ ما جاء في التقرير المريب.
المسألة لو كانت خالية مما يريب، لأخرجت الجهات المعنية نفسها مما يريب إلى ما لا يريب، وذلك من خلال المكاشفة والشفافية حيال ذلك التقرير، بدلا من محاولة وأد الحديث عنه، أو قبره إلى الأبد بالتوسل بمختلف الوسائل والحيل، فهذه الحركات قد أحالت الشك إلى يقين، وتكفلت الحوادث المتجددة ومازالت بتثبيت التهمة، وها هو الزمن يقود يوميا لتبخر الأمل بتحقيق الإصلاح المنشود من أدمغة المزيد من الناس.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1801 - السبت 11 أغسطس 2007م الموافق 27 رجب 1428هـ