لسنا بصدد إجراء تجارب لعبث سياسي تنظيري، أو لرص صفوف من المماحكات السياسية التصورية عن أجندة ومؤامرات ومخططات سياسية واستراتيجية جارية، وتتم عملية تنفيذها على قدم وساق بهدف تدمير المنطقة عن بكرة أبيها وإعادة تأسيسها وإشغالها وإشعالها على أسس استراتيجية وثقافية جديدة، وبشكل يعج بالكانتونات الطائفية والعرقية المحيطة بكيان صهيوني قوي وصاعد بنفوذه الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي، فالحديث عن مشروع «الشرق الأوسط الجديد» بخرائطه ومخطوطاته المخيفة التي يجرى تداولها في أوساط السياسيين والاستراتيجيين من جهة مع التطرق إلى موضوع لوثة التجنيس وما يتسبب به من أزمات في بلادنا قد يبدو أمرا مبالغا فيه، ونوعا من السخف السياسي المثير الذي تبرز فيه عناصر الإثارة والتحفيز والمبالغة على إيجاد الرد المتطرف المضاد إذا ما تم تناول الموضوع سطحيا وحسب النطاق القُطري والإقليمي!
فهل يستوي مشروع إمبريالي صهيوأميركي يستهدف المنطقة ككل في آثاره وعقابيله التدميرية مع سياسة تجنيس تتبعها إحدى أصغر دول المنطقة وأكثرها كثافة سكانية؟!
وللإجابة عن مثل هذا التساؤل الوارد والمحتمل لابد أن أنطلق من نقطة مهمة وردت في كلام إبراهيم شريف أثناء مقابلة له مع قناة «العالم» الفضائية بشأن أزمة التجنيس السياسي في البحرين، وقد اعتبر فيها أن عملية التجنيس السياسية الجارية تعتبر بمثابة الحفرة التي سيسقط فيها النظام والشعب على المدى البعيد ويتكبد آثارها ونتائجها الخطيرة والمدمرة مع مرور السنوات، وهي بلا شك لفتة غاية في الأهمية لابد من أن تؤخذ بالاعتبار لكونها تثير الكثير من النقاط الأخرى المهمة والمحسوسة التي وقبل أن نسردها فإننا نؤكد أننا لا ننطلق في ذلك من منطلق فاشي أو شوفيني أو ممالئ سياسيا لطائفة على حساب طائفة، فنعتبر بذلك أن كل تجنيس إنما هو تنجيس، بل نحن هدفنا من إثارة هذا الموضوع والملف هو تناوله من أفق مصلحة وطنية عامة أخذا بحسابات العقل والمنطق!
وكدأبنا المعتاد حين فتح هذا الملف الخطير والحساس فإننا نؤمن ونؤكد على احترامنا لعملية التجنيس التي تتم وفقا للأسس القانونية السليمة المعترف بها والتي تتضمن الحق الاستثنائي لجلالة الملك المفدى في منح الجنسية البحرينية، بما في ذلك النقطة المتعلقة بـ «الخدمات الجليلة» التي لا تخلو من إبهام وإعتام وتعميم مفتوح بلا أدنى حد وسقف، فمن هم أصحاب «الخدمات الجليلة»؟!
هل هم المخترعون والمكتشفون؟!، أم هم المطربون والشعراء؟! أم دون ذلك؟!
لكننا لابد من أن نوضح موقفنا المدين والمستنكر لعمليات التجنيس السياسية أو لوثة التجنيس بصفتها مرضا سياسيا تصاب من خلاله الدولة بكل الأمراض الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المحتملة لكون هذه العمليات التي يصبح فيها الاستثناء قاعدة قد خرجت عن إطار العقلانية السوي قبل الإطار القانوني السليم الذي اتخذته لها ديباجة!صحيح أن جميع دول العالم تمارس حقها المشروع في منح الجنسية والتجنيس قانونيا بشتى الوسائل، ولكن لا أن يكون هذا الحق أداة ووسيلة تدمير لعافية وسلامة الوطن المهددة أصلا بالكثير من الأزمات التي لم تجد لها حتى الآن حلا جذريا حاسما أو يتم احتواؤها وتقليص جروحها وآلامها في كبد المواطن!
فهل قام مسئولونا الأفاضل بصدق وشفافية ووضوح مع النفس بمقارنة عمليات التجنيس السياسية الجارية في بلادنا والمعايير التي يجري الخضوع لها من خلالها مع شروط وعمليات ومقاصد سياسات التجنيس في الدول الشقيقة المجاورة التي تعرف معنى الهوية الحضارية والثقافية للبلد وتضع حساباتها الاقتصادية والسياسية الاستراتيجية نصب الأعين، فباتت تتوارد إلينا الأنباء عن جارة خليجية شقيقة ستعلن عن نيتها منح جنسيتها لكل مكتشف ومخترع في العالم يود أن يحصل على الدعم والاحتضان المطلوب عسى أن تساهم هذه الدولة مبدئيا في الاستفادة هي وشعبها من مختلف العطاءات البشرية وفي خدمة أوضاعها الداخلية والعالمية البناءة؟! فليقتدوا على الأقل بسياسات التجنيس الحضارية في هذه الدول التي تراعي مصالحها ومصالح مواطنيها وسمعتها إقليميا وعالميا، وتتحمل مسئوليتها الأخلاقية في ذلك بدلا من أن يكون التجنيس هو مقود لسياسة الدولة ضد مواطنيها «المغضوب عليهم» و»الضالون»، واستزراعا فاشلا لثقة شعبية من دون تربة!
فنحن نرحب بالتجنيس المقنن والمدروس بعقلانية وننبذ الجرائم التي ترتكب باسمه حينما يطرد المواطن ويغيب من وطنه من خلال التمييز ضده والتضييق عليه في مصادر رزقه؟!
فما الذي أدى وأودى له التجنيس السياسي وسيؤدي إليه مستقبلا من آثار مضاعفة وبيلة (لا قدر الله) سيدفع ثمنها غاليا الوطن والمواطنون والأجيال القادمة؟!
هل نتكلم بدءا عن زيادة التوترات الطائفية الحاصلة في البلد بسبب التوظيف السياسي لعملية التجنيس الذي ينظر إليها من قبل الشيعة على أنها بمثابة استقواء طائفي بالخارج، وسعي لتغيير التركيبة الديمغرافية يتم من خلاله إيهام أبناء الطائفة الأخرى بأنه سيعزز من وجودهم الكياني والشعبي والسياسي لجباية الصمت الذي دفع ثمنه الكثير من أبناء السنة الذين يحتكون مع «المجنسين» يوميا ويعانون من مزاحماتهم في مصادر الرزق الشحيحة أصلا في مجال العمل بالداخلية والسلك العسكري!
ولو أن الأمر الأكبر من ذلك بكثير حينما تزداد تلك الاحتقانات الطائفية وتتعقد الأمور وتتحول إلى احتقانات عرقية بين عرب شيعة وعرب سنة وعرب «هولة» وعجم، ويتم الفرز الانفعالي الاعتباطي بين «الأصيل» و»الزائف» و»التقليد» و»النسخة الكربونية»!
أم نتناول المسخ الثقافي والحضاري المنفلت الذي تتسبب به الوفرة التجنيسية السياسية حينما تغيب معايير اللغة والثقافة والمعرفة بتاريخ البلد وعاداته وتقاليده، بل وحتى معايير السمعة الأخلاقية، فيتم الارتزاق من جنسية البلد التي تبتذل بعد أن يتم الحصول عليها ممن لا يستحقها فتكون قارب النجاة نحو العيش الرغيد الذي لم يتحقق لأصحابها من المواطنين الجدد في بلادهم الأصلية!
كم يصيبنا من ألم نفسي ومعنوي وإحراج حينما نقابل الأشقاء الخليجيين الذين يحدثونا عن اضمحلال السمات والطبائع السلوكية للهوية الثقافية والحضارية التاريخة المميزة إقليميا للبحريني الذي ينظر إليه على أنه طيب ولطيف ووادع ومتواضع وراقي، فباتت هذه الدول تجابه بزيارة «بحرينيين جدد» على أراضيها لا يعرفون العربية ولا يجسدون تلك الأخلاق والطبائع الراقية والمتحضرة في التعامل مع الناس!
وللأسف هذه الصورة المشرقة التي يحملها البحريني وساما للتميز على صدره بين شعوب المنطقة قد أوشكت على الإعتام والانطواء بفضل الوفرة التجنيسية السياسية، وهو ما ينعكس بلا شك على مستوى القدرات الاندماجية والترابطية التكتلية مستقبلا بين البحرين الموفورة تجنيسيا وسائر دول المنطقة التي قد ترى في تلك الوفرة التجنيسية السياسية بالبحرين تهديدا وخطرا على أمنها القومي والوطني!
كما أن لوثة التجنيس السياسية أدت إلى ابتذال الهوية الثقافية والحضارية والسلوكية البحرينية بعد أن ابتذلت الجنسية ذاتها التي أصبحت بابا يقود إلى مرتع الارتزاق وطوقا للنجاة، فإن هذه اللوثة والوفرة غير محمودة العواقب تشكل من دون شك هدرا ثلاثي الأبعاد لجهود التنمية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي ستتقلص انعكاساتها المباشرة على مستويات الرفاهية الشعبية خضوعا فطريا لعوامل النمو الديمغرافي المنفلت، وعدم التناغم والانسجام السياسي والاجتماعي، فيكون المجنسون ورقة قوة لتزوير الإرادة الشعبية السياسية، وتحضرني في هذا المقام قصة أحد المرشحين النيابيين من المتجنسين الذي عبّر عن تطلعاته بالفوز ليكون خادما للسلطة، وفي الوقت ذاته عبّر عن نفوره وامتعاضه من وجود الجمعيات السياسية!
في المقابل نجد بصورة طبيعية أن يؤدي فتح هذا الملف من قبل بمنظور سياسي طائفي أو منظور وطني إلى إحداث ردة فعل عكسية ملموسة لدى إخواننا من الحاصلين الجدد على الجنسية البحرينية الذين سيجدون في ذلك تهديدا وجوديا لهم وطردا من الجنة سيقود حتما إلى ممارسة نوع من التطفل الاجتماعي يجعل من تلك الفئات تعتاش بيئيا وتتغذى من زيادة الأزمات والاحتقانات المعززة بمخاوف طائفية، عسى أن تكرس لها وجودا يزعم من خلاله أنه يشكل حماية وسندا معززا لطائفة على حساب طائفة أخرى، لترضى وتقف الطائفة «المحمية» و»المطمئنة» مع لوثة التجنيس التي ستضر بها أكثر من غيرها!
جميع تلك العوامل الخطيرة من احتقان طائفي وعرقي ونفور واحتقار للاندماج وابتعاد عن احتمالات التكتل والتوحد إقليميا أدت وستؤدي إلى تعظيم أزمة الثقة بين أفراد الشعب نفسه ومع السلطات كافة وهو ما يطرح بقوة احتمالات انفجارية وانشطارية واردة في سياق تجزئة وتقسيم معنوي ونفسي يأتي قبل الانشطار الكياني، فتكون أزمة الدولة مع مواطنيها حينما تبحث الدولة عن مواطنين جدد ويبحث المواطنون في المقابل عن دولة أخرى!
مثل هذه الأوضاع المؤلمة والخطيرة المهلكة لأبد أن الأوطان تكرسها للأسف عقليات إقصائية تتبنى مناظير سياسية قبلية/ طائفية رجعية ترى في الاستنجاد وطلب «الفزعة» من الشعوب والقبائل في الخارج ضرورة عاجلة لديمومة «الكيان الوطني» ولشراء خردة الولاءات السياسية بالكيلو والطن، بدلا من أن تكون هناك عقلية ذات رؤية عصرية ترى في بناء دولة المواطنة الحديثة وواقع المؤسسات والقوانين الملزمة بدءا من مصالحة وطنية شاملة أساسا لتعزيز الولاء الوطني الذي ينعم به شعب سيد في ظل حكم عائلة كريمة ضمن وطن مزدهر وناهض!
أفليس الخيار العصري والحضاري الثاني هو الأفضل للوطن ومواطنيه بدلا من الحصول كبحرينيين على مخرجات لوثة التجنيس المدمرة التي ستؤهلنا لدخول جامعة «الشرق الأوسط الجديد» حيث المقت والنفور والتفكيك فضيلة لابد منها!
وإن كان ينظر إلى «الشرق الأوسط الجديد» بصفته بالونة اختبار من قبل بعض الساسة والاستراتيجيين إلا أن مخرجات لوثة التجنيس لا يمكن أن تكون كذلك!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1800 - الجمعة 10 أغسطس 2007م الموافق 26 رجب 1428هـ