بدأ أمس في دمشق اجتماع اللجنة الأمنية التي انبثقت عن مؤتمر شرم الشيخ الذي انعقد في مايو/ أيار الماضي. اجتماعات اللجنة تستمر لمدة يومين بمشاركة أميركية ودولية وإقليمية وجوارية ويرجّح أن تركّز مداولاتها على المسألة الأمنية في العراق ومراقبة الحدود السورية.
اجتماعات دمشق جاءت بعد يومين من انتهاء اللقاءات الأمنية الإيرانية - الأميركية في بغداد وبعد يوم واحد من زيارة رئيس الحكومة العراقي نوري المالكي إلى أنقرة وتوقيعه مذكرة تفاهم أمنية مع تركيا تتعلق بمسألة «الإرهاب» ومكافحة نشاطات حزب العمال التركي الكردستاني في شمال العراق.
تصادفت اجتماعات دمشق الأمنية أيضا مع زيارة المالكي إلى طهران لمدة ثلاثة أيام يرجّح أنْ يبحث خلالها مع القيادة الإيرانية مجموعة ملفات أمنية وسياسية واقتصادية تشمل سلسلة حقول تتصل في النهاية باحتمال انسحاب قوات الولايات المتحدة من بلاد الرافدين ومدى انعكاس تلك الخطوة على العلاقات الثنائية في المستقبل.
الاتصالات والزيارات واللقاءات الثنائية أو الثلاثية في بغداد وأنقرة وطهران ودمشق كلّها تأتي في لحظات مهمة سيكون لنتائجها الميدانية تأثيراتها المباشرة على العراق ودول الجوار وصورة المنطقة السياسية في المستقبل. فالحلقات متصلة وما يمكن أنْ يتفق عليه لرسم صورة العراق يمكن أن يتكرر في مناطق أخرى مجاورة أو ممتدة إلى لبنان وفلسطين.
العراق في صورته الراهنة تحوّل إلى مرآة إقليمية في المنطقة. فهو حجر الزاوية في السياسة الأميركية الدولية و»الشرق أوسطية» في الأسابيع المقبلة. وهو أيضا تحوّل في استراتيجية إدارة جورج بوش إلى نقطة محورية تتوقف في ضوء نتائجها الميدانية الكثير من الترجيحات العسكرية التي تتراوح بين المغادرة أو المغامرة.
العراق أميركيا يحتل الأولوية في برنامج واشنطن المقبل لذلك تكثف إدارة بوش جولاتها وزياراتها لتوضيح معالم الصورة في وقت تفتعل واشنطن أزمات وتثير زوابع في أفغانستان ودارفور وأحيانا غزّة والضفة (الدعوة إلى مؤتمر دولي في الخريف) لشد الانتباه إلى مناطق أخرى.
أميركا الآنَ تركّز جهدها على العراق حتى لو تظاهرت إدارة بوش بأنها معنية بقضايا ساخنة أخرى في السودان و»الشرق الأوسط» وغيرها من نقاط حسّاسة. وبما أنّ ساحة بلاد الرافدين هي المحور الأساسي الذي يحتل موقع الأولوية في خطة بوش في الأسابيع المقبلة لا بدّ إذا من مراقبة تلك التحوّلات في الخطاب الأميركي ومدى تعامل الولايات المتحدة الجدي مع الملفات المتصلة بالموضوع.
العراق الآنَ يشكّل نقطة الدائرة الإقليمية. فهناك مفاوضات مع تركيا (زيارة المالكي لأنقرة). وهناك مفاوضات مع إيران (زيارة المالكي لطهران). وهناك لقاءات ثلاثية في بغداد (الاجتماعات الفنية بين أميركا وإيران). وهناك اجتماع اللجنة الأمنية الدولية والإقليمية والجوارية في دمشق. وهناك أيضا اتصالات سعودية تجريها الرياض من بعيد لاستكشاف إمكانات إعادة فتح سفارة في بغداد. وأيضا هناك محاولة أميركية - بريطانية لإعادة إحياء وتمديد وتوسيع صلاحيات ودور الأمم المتحدة في العراق بعد انقطاع سببه التفجير الذي أودى بحياة 22 مندوبا دوليا في العام 2003.
لماذا يعتبر العراق الآنَ نقطة دائرة المنطقة «الشرق الأوسطية»؟ هناك الكثير من القراءات وكلّها تتصل بتداعيات الخطوة المقبلة التي تعتزم الإدارة الأميركية اتخاذها في الأسابيع أو الأشهر المقبلة. فإذا كانت الخطوة العسكرية نحو المغامرة فهناك انعكاسات كثيرة يتوقع حصولها كردة فعل على فعل الأمر الذي يطرح على طاولة «الشرق الأوسط» مجموعة أوراق دفعة واحدة. وإذا كانت الخطوة نحو المغادرة فهناك أيضا سلسلة انعكاسات خطيرة يتوقع حصولها في حال لم تتوافق دول الجوار عليها.
المغامرة لها حسابات وكذلك المغادرة. فهناك تداعيات خطيرة على المستويين. ففي حال الأولى ستدخل المنطقة في مواجهة عسكرية يرجّح أن تستكمل سياسة التقويض التي باشرتها واشنطن ضد دول المنطقة منذ نهاية 2001. وفي الحال الثانية ستواجه المنطقة فراغات أمنية كبرى قد تستدرج أو تستهوي الدول الإقليمية نحو الانجذاب إليها. ويرجّح في حال اتخذت واشنطن خطوة المغادرة أن تتعرض المنطقة إلى هزات ارتدادية ستقوّض الكثير من المعادلات السياسية والتوازنات الإقليمية.
دائرة جغرافية
الأسابيع والأشهر المقبلة خطيرة جدا في حالتي المغامرة أوالمغادرة وسترتسم في ضوء تداعياتها صورة مغايرة لمعادلات المنطقة وتوازناتها. وبهذا المعنى الجيوبولتيكي (الجغرافي السياسي) تحوّل العراق إلى نقطة الدائرة في تجاذبات القوى الإقليمية. فهناك الجانب السوري، والجانب الأردني، والجانب السعودي - الخليجي، والجانب الإيراني، وأخيرا الجانب التركي.وكلّ هذه الزوايا تشكّل مجتمعة تلك الدائرة الجغرافية السياسية المحيطة بالعراق.
تركيا مثلا حشدَتْ نحو 200 ألف جندي على الحدود الشمالية للعراق وهددَتْ بملاحقة عناصر الحزب الكردي داخل الأراضي العراقية في حال لم تتحرك حكومة بغداد بالتعاون مع الحكم المحلي في الشمال بتطويق نشاط الحزب التركي المعارض. والحشد يعني في اللغة العسكرية نصف حرب وهو ينتظر لحظة سياسية مناسبة لتنفيذ خطته المتربصة بكلّ العراق وليس بشماله فقط.
إيران أيضا استنفرت قواتها وهي تعلن يوميا عن جاهزيتها العسكرية واستعدادها للقتال دفاعا عن حقها الشرعي والمشروع في إنتاج الطاقة السلمية.
سورية من جانبها تعتبر نفسها معنية بالأزمة العراقية الناجمة أصلا عن الاحتلال الأميركي وما رافقه من تهديدات بزعزعة الاستقرار وتعديل سياسات وتغيير خريطة «الشرق الأوسط».
الأردن أيضا مهتم من جانبه بتداعيات المأزق الأميركي في العراق. وهو يعتبر من الأطراف المعنية بمستقبل بلاد الرافدين لمجموعة أسباب حيوية تتصل بالجغرافيا والاقتصاد والأمن والمعابر والممرات التجارية أو السكانية.
السعودية بدورها أعربت مرارا عن استنكارها للسياسة الأميركية ومارافقها من خطوات سلبية ساهمت في تقويض الدولة وخلخلت توازنها السكّاني وربما تؤدي إلى تعديل هوية العراق في المستقبل.
كل دائرة المحيط الجغرافي السياسي تشكل حزام نار يطوّق العراق وله علاقة بالمجرى العام الذي يتوقع له أن يتعدّل في حال قررت الولايات المتحدة المغامرة أم المغادرة. ففي الوجهتين ستتحمل المنطقة الكثير من الآثار السلبية إلا إذا توافقت على مشروع حل إقليمي مشترك تشرف على ضبطه جامعة الدول العربية بالتعاون مع منظمتي المؤتمر الإسلامي والأمم المتحدة.
قراءة الأزمة العراقية في الإطارين الأميركي/ الدولي، والدولي/ الإقليمي يفتح الباب لقراءة الأزمة من الداخل ودور واشنطن في تخريب العلاقات الأهلية والتلاعب في توازناتها وتوزعها السكّاني في مناطق بلاد الرافدين. هذا التعديل أدخل العراق في سياسة فرز مذهبية وطائفية قتل بسببها عشرات الآلاف وفرّ خوفا منها الملايين من هذه المنطقة إلى تلك أو إلى دول الجوار.
الآنَ وبعد أربع سنوات على الاحتلال الأميركي لم يعد العراق كما كان. فالصورة الأهلية تغيّرت والتوازن الديموغرافي (السكّاني) السياسي تعدّل وتوزع مراكز قوى على المناطق أنتج سلطات محلية قوية بات من الصعب كسرها من دون جرجرة البلاد إلى مواجهات دموية.
هذا الواقع الأهلي المضطرب سياسيا يمكن ملاحظته من خلال متابعة تفكك حكومة المالكي المتهمة بالضعف والكذب والنفاق والانحياز الطائفي والمذهبي. فأزمة الحكومة الآنَ تمثل فعليا أزمة الكيان وما يشهده من تجاذبات أهلية تعبر عن نفسها بتلك الذبذبات الوزارية. أحيانا تخرج هذه الكتلة لتعود بعد أسابيع، ثم تنسحب منها كتلة وزارية منافسة لتعود، ثم تعلق كتلة أخرى عضويتها في الحكومة أو البرلمان وهكذا إلى نهاية مأساة لا يعرف منذ الآنَ نوعية فصلها الأخير.
استقال حتى الآنَ 16 وزيرا من حكومة المالكي المدعومة رسميا من طهران ودمشق وواشنطن. ولكنّ الوزارة استمرت تراهن على عامل الوقت والدعم الأميركي لها مضافا إليها رعاية إيرانية تفضل المحافظة عليها؛ لأنها أفضل من المجهول.
وسط هذه الأزمة الحكومية المعطوفة على قلق من فراغات أمنية متوقعة في حال لجوء واشنطن إلى المغامرة أو المغادرة ، تعيش دول الجوار العربية والمسلمة على خط دائري جغرافي يحيط سياسيا بالعراق.وهذا الخط الدائري له امتداداته الجغرافية وتأثيراته المباشرة على ملفين: أحدهما في لبنان والأخر في فلسطين.
حلقات السلسلة مترابطة ومتداخلة وكلّ الاجتماعات الأمنية واللقاءات الثنائية أوالثلاثية تحاول قراءة التجاذبات السياسية بين الملفات الساخنة والتداعيات المحتملة بشأنها في حال قررت واشنطن اتخاذ خطوة مجهولة /معلومة: المغامرة أم المغادرة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1798 - الأربعاء 08 أغسطس 2007م الموافق 24 رجب 1428هـ