في المقال السابق اتضح أن الحاكم في فكر الإمام علي (ع) أمينٌ على الحكم ووكيلٌ عن الأمة وليس مالكا للحكم، والشرعية التي يستمدها الحاكم لحكمه موكولة بقيامه بواجباته تجاه الأمة. يقول الإمام: «أيها الناس، إنّما أنا رجل منكم لي ما لكم وعليّ ما عليكم». ويشترط على الأمة بعد توافر الشروط الملائمة لاختيار الحاكم من كفاءة ودين، واجباتٍ حتى يتمكن من أداء واجباته بسلاسة، فيقول: «وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم». وقبل ذلك يشترط لهم حقوقا أيضا يحددها بدقة كوظائف للدولة عليه خليفة بقوله: «أيها الناس، إن لي عليكم حقا، ولكم علي حق. فأما حقكم علي فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعملوا».
والأمة أولى بالمشاركة في القرارات المتعلقة بمصيرها، يقول الإمام (ع): «ألا وإنّ لكم عندي ألا أحتجز دونكم سرا إلا في حرب، ولا أطوي دونكم أمرا إلا في حكم، ولا أوفر لكم حقا عن محله، ولا أقف به دون مقطعه، وأن تكونوا عندي في الحق سواء» ثم يكمل رابطا بين قيامه بواجباته تجاه الأمة وبين طاعتها له قائلا: «فإذا فعلت ذلك، وجبت لله عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة وألا تنكصوا عن دعوة، ولا تفرطوا في صلاح... فخذوا من أمرائكم، وأعطوهم من أنفسكم ما يصلح الله به أمركم ».
وبما أن الأمة هي الموكل وهي صاحبة الشأن؛ لذلك فإن مسئوليتها تكمن في المحافظة على مصالحها ومنع استبداد الحاكم. لابد لرب العمل أن يضمن سير العمل في الاتجاه المرسوم له وذلك وفق آليات عدة، منها مراقبة الموظفين، كذلك الأمة في نظر الإمام، فلأنّ الحاكم وكيل وموظف عند الأمة؛ فلذلك لابد أن تكون رقيبة عليه حتى تضمن استقامته، ومحافظته على هذه الأمانة الكبرى.
إنّ مقاصد الشريعة المحمدية قامت على العدل والإحسان وتحقيق المصالح ودرء المفاسد وحماية الإنسان وحفظ عقله وحياته وعرضه وماله، وأفضل سبيل لضمان ذلك يكون بواسطة أصحاب الشأن والمعنيين بهذه المصالح، وهم أفراد الأمة أنفسهم. وهذا يعني أن قوة الحالة الإسلامية في الأمة هي الضمانة الأكيدة لاستمرار الحكم في صلاحه أكثر منها قوانينَ مكتوبة تتحكم في تطبيقها أهواء الحاكم وقوته.
واشتراك الأمة، مهما كانت مساوئه في رأي البعض، يبقى الخيار الأفضل مادامت فكرة العصمة غائبة والقيادة مُعرّضة للخطأ والزلل؛ لذلك يقول الإمام (ع) : «الزموا السواد الأعظم، فإنّ يد الله مع الجماعة وإياكم والفرقة». والسواد الأعظم عادة ما يتبعون قياداتهم الاجتماعية التي يثقون بها والتي خبروها بالأمانة والصدق، وخصوصا العلماء المخلصين الزاهدين منهم، أي النخبة من الأمة، ويؤكد الإمام علي (ع) هذه الحقيقة بقوله: «وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده»؛ لهذا يصعب غش الأمة؛ إذ إن الحوادث سرعان ما تكشف معدن الرجال، فتعرّي المغشوش والمتلبس بلباس غيره.
ويقول الإمام في شأن دور النخبة من علماء الأمة: «أما والذي خلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألاّ يُقاروا على كِظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز».
والأمة يجب أن تعين الحاكم وتساعده بالتسديد والنصيحة والنقد؛ لأنّ الحاكم إذا صلح صلحت شئون الرعية ومعايشهم وذلك كما يقول الإمام (ع) عندما نهى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ناصحا إياه بعدم الخروج بنفسه لملاقاة الفرس، فقال له: «... ومكان القّيم بالأمر مكان النظام (أي السلك) من الخرز، يجمعه ويضمّه، فإذا انقطع النظام تفرق الخرز وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا...».
ولتفعيل دور الأمة، وتكريس هذا الدور ليكون عرفا وعادة تضمن استقامة الحكم فيما بعد، كرّر الإمام (ع) وفي عدة مناسبات أهمية أن تأخذ دورها المنوط بها تجاه الحاكم من مراقبة ونقد ومحاسبة، فإذا اعتاد الناس حرية الكلمة، ونقد أكبر رأس (الخليفة)، فذلك سيصبح عادة لديهم؛ ما يضمن بقدر أكبر بقاء الحكم مستقيما فيما بعد. فيقول: «... فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل».
والإمام (ع) لا يريد من الأمة أن توكل أمورها للمؤسسات والتنظيمات مهما كان صلاحها، فالثقة لا تكون عمياء، بل لابد من مقاييسَ لاعتبار الحاكم صالحا، ذلك أنّ الانحراف وارد دائما. ولهذا لا توجد عبارات مطلقة في مخاطبة الإمام للناس وفي دعوته لهم إلى وجوب طاعة من يوليه عليهم مهما عظمت مكانته عند الإمام (ع)، يقول مخاطبا أهل مصر في شأن مالك الأشتر: «فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحق...»، وهنا حصر الطاعة فيما طابق الحق، وهذا يعني أنّ الإمام (ع) ينظر إلى الأمة في ظل الحكم الصالح على أنها أمة واعية، متعلمة، تعي واجباتها وحقوقها وتعرف متى تطيع ومتى تعصي الوالي، إذ إن الشريعة وأحكامها تفصل بين سلطة الشعب وسلطة الحكومة تلقائيا، وكلتاهما تتحركان في إطار القوانين التي تنظمها الأحكام الشرعية.
«ويهيب - الإمام - بالناس أن يحاسبوا وُلاتهم ويراقبوا أعمالهم. وبألاّ يقبلوا بوالٍ إن لم يكن خادما لهم. وبأن يُبدوا السخط إذا شاءوا وأن يُبدوا الرضا». (جورج جرداق: الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، دار المهدي، بيروت، ط1، 2003م ج1، ص127) فيقول لهم: «... ولا تثاقلوا إلى الأرض، فتُعمّوا بالذل وتقرّوا بالخسف ويكون نصيبكم الخسران».
والأمة في فكر الإمام، يجب أن تتحمّل مسئولياتها في شتى المجالات، وبذا يتقلص دور الدولة إلى أدنى حد؛ وذلك لأنّ النظم والتعاليم الإسلامية، إنّما يتم ضمان تطبيقها بواسطة الوازع الذاتي لأفراد الأمة بنسبة عالية، ويبقى الكثير من القوانين لتكملة دور ذلك الوازع. كذلك، يرى الإمام، أنّ الحاكم في حاجة إلى الأمة لإعانته على تحمّل مسئولياته كافة، يقول: «وليس امرؤ، وإن عظمت في الحق منزلته وتقدمت في الدين فضيلته، بفوق أن يُعان على ما حمّله الله من حقه، ولا امرؤ، وإن صغرته النفوس وأقحمته العيون، بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه».
بل الإمام يعد دور الأمة في التسديد والنصيحة حقا من حقوق الحاكم على الرعية، فيقول: «وأما حقي عليكم... والنصيحة في المشهد والمغيب». يقول الأستاذ عبده حسن الزّيات: «ولنلاحظ هنا أنه يجعل من حقه على الشعب أن ينصحه الشعب، وهذا مبالغة في السعي وراء الكمال».
ملاحظة: ما وضع بين مقوستين في هذا المقال اقتباسات من الكتب، لكن لم تكتب في هوامش لضيق المساحة.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1797 - الثلثاء 07 أغسطس 2007م الموافق 23 رجب 1428هـ