العلاقات الخليجية الإيرانية يحتاج إلى إدارتها عقل بارد حصيف غير متشنج من الطرفين، يقف على أسس ثابتة من المبادئ، منها أن إيران من جهة، والعرب من جهة أخرى في هذا الخليج يظلون جيرانا، كما كانوا في الماضي، وكما هم في المستقبل والمسافة الجغرافية والإنسانية ليست خيارا لأي منهم، وبالتالي إن البحث عن شراكة حقيقية ودائمة، قائمة على المعرفة الحقة بالآخر، تعلي من قيم الاحترام المتبادل القائم على القانون الدولي والمصالح المشتركة، هي مهمة الطرفين.
هناك خلافات في وجهات النظر في أمور سياسية، وهي خلافات طبيعية تحدث حتى في المجتمع الواحد، لا يجب وليس بالضرورة، أن تتحول هذه الخلافات إلى مرحلة صراع تبدأ باردة وقد تنتهي لا سمح الله بسخونة، يدفع ثمنها شعوب المنطقة، كما حدث إبان ثمانينات القرن الماضي، وشهد جيلنا على الكلف الباهظة التي دفعت إنسانيا واقتصاديا، في ذلك الصراع الذي اندلع بين إيران والعراق، ومازلنا جميعا ندفع أثمانا متأخرة له، ولا يجب أيضا أن تترك للشارع بما يتصف به من عاطفة جياشة، ليرسم أجندة العلاقة المعقدة بين الجيران.
هناك حقائقُ لا يمكن القفز عليها يعرفها العقلاء في الطرفين، منها أن استقرار منطقة الخليج ليس حيويا لأبناء المنطقة ككل، عربا وإيرانيين فقط، ولكن أيضا هو حيوي للتنمية العالمية، فالمنطقة تعوم على بحيرة نفطية هي مصدر الطاقة العالمي، وأي خلل في مصدر تدفق هذه الطاقة أو أي تعطيل لها يصيب النمو العالمي في مقتل، وتتضرر به مصالحُ عظمى لدول كثيرة.
الاستخفاف بهذه الحقيقة، لعب في المجهول واستجلاب للمخاطر. أما الحقيقة الأخرى الثابتة فهي أن تقليل النمو الاقتصادي أو بطئه في كلا الجانبين يزيد من احتمال التوترات السياسية المختلفة داخليا، مذهبية أو عرقية أو غيرها من أشكال التوترات، والعكس صحيح فالتنمية بمعناها الشامل تقلل من التوترات السياسية وتقرب الشعوب والحكومات إلى وضع مريح يسهل فيه استخدام العقل واستبعاد العاطفة. أما الحقيقة الثالثة والثابتة فإن كلف الصراع الساخن هي من الضخامة والقسوة ما تتضاءل معه أي أرباح أو منافع متوقعة من هكذا صراع.
بعد هذه المقدمة السريعة نجد أن الضجة التي سادت من احتمال حصول دول الخليج على سلاح متقدم، وربط ذلك بتوجه خفي تجاه إيران، هي ضجة لا تتناسب مع الحقائق الموضوعية. صحيح أنه نقل عن وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، أن تلك الأسلحة هي لمواجهة إيران وسورية وحزب الله، إلا أن الصحيح أيضا أن ذلك تفسير أميركي، لا يستطيع أحد أن ينسبه إلى مصدر عربي في الخليج. وهو ربما للاستهلاك الداخلي الأميركي، وربما لأسباب أخرى. إلا أن مبدأ الحصول على سلاح، هو مبدأ مستقر في العرف الدولي، وأعلنت دول الخليج غير مرة أن من حق إيران غير المنازع أن تتسلح، حتى تحصل على القوة النووية من أجل الاستخدام السلمي، هو ما تريده إيران وتعلنه. إذا، موضوع التسلح لا يجب أن يشكل خلافا مستعصيا وهو بالضرورة لا يُترك للتعليقات الساخنة والعدائية.
الموضوع الآخر هو الوضع في كل من العراق ولبنان (حزب الله) وهو أمر به وجهات نظر مختلفة. منها أن الوضع برمته لا يجب أن يخرج من الخلاف السياسي إلى الخلاف المذهبي، إذ إن وقع ذلك، دخل الجميع في مستنقع «المذهبية» التي لا يخرج منها أحد سليما معافى، وتاريخ الصراعات العربية السابقة - لمن يريد أن يعرف - تغنينا بالأمثلة التي تدل من دون ريب على أن الخسارة فادحة للجميع من جهة، وألا يوجد منتصر في مثل تلك الصراعات المبنية على المذهبية، وجلب ذلك الصراع العبثي من المفاسد ما ملأ كتب التاريخ من جهة، والمقابر من جهة أخرى.
كما أنه في التاريخ الأوروبي نجد النتائج نفسها فقد ولجت المجتمعات الأوروبية المسيحية؛ بسبب خلاف مذهبي، في أتون حروب استمرت لعقود طويلة. إلا أن أثمان ذاك النوع من الصراع أفدح. في القرن الواحد والعشرين الذي عرف العقل الإنساني فيه قيمة وأهمية التعددية واحترام الاختلاف ومعرفة أفضل بالآخر، وفي وقت يتحدث العقلاء عن «تحالف حضارات» فإن المبدأ الأول الذي عرفته الإنسانية من كل ذاك هو احتمال الخطأ لدى البشر، والمقابل له في حقوق الإنسان هو التسامح وقبول الآخر، وأولى أن نقبل الخلاف في الفروع ونعده ثراء لحضارتنا.
الأكثر فداحة في صراع كلا المكانين (العراق ولبنان) أن الفوضى جراء الاندفاع مع العاطفة في ثوب سياسي، هي أن النتائج النهائية ستعطل الأطراف جميعها عن التنمية وقد تعود بالسوء على المشاركين. فلا فوضى لبنانية من دون أن تُسمع في الجوار، ولا فوضى عراقية من دون أن يكون لها النتيجة نفسها.
من جهة أخرى، ما يجمع الإيرانيين بالعرب من هوامش هي أكثر مما يفرقهم، إذا كان لإيران اجتهاد سياسي في كيفية إدارة شئونهم، فذلك حق لا ينازعهم أحد فيه. إلا أن ما يجمعهم هو كثير.
هناك الدين، وإن اختلفت تفسيرات بعض شعائره الفرعية، إلا أنهم يصومون ويتعبدون ويحجون بيت الله جميعا وتقريبا بالشعائر نفسها، كما أن القيم الثابتة في الإسلام والعامة هي مشتركة.
ومن نقطة الانطلاق تلك، إن اللغة العربية هي حاجة للتعبد الإسلامي، وكثيرٌ من أهل السلطة في إيران اليوم يعرفون لغة الدين حق المعرفة، فلا جدال على الفهم الخاطئ. فوق ذاك هناك مصالحُ اقتصادية جمة تجمع الطرفين، ونقلت لنا الأنباء أخيرا، أن أكبر سجادة صُنِعت في العالم هي في إيران لصالح مسجد المرحوم الشيخ زايد بن سلطان في أبوظبي.
من الضروري إذا بعد هذا الاستعراض السريع أن يُبحَث عن سلة توافق إقليمي تحفظ لك حقه مع لجم العاطفة التي تحشّد الناس في الاتجاه الخطأ؛ تلبية لسياسي متسرع أو رجل سلطة غافل، أو مصالح آنية؛ من أجل الدفع بالعلاقات الإيرانية العربية والخليجية إلى مأزق، يعجزها عن النظر إلى مخاطر عظيمة والانزلاق إلى صراع عبثي، يستنزف الطاقات من دون طائل.
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1796 - الإثنين 06 أغسطس 2007م الموافق 22 رجب 1428هـ