عندما تولى طه حسين حقيبة وزارة المعارف العام 1950، كان من أكبر إنجازاته تعميم التعليم، تحت شعار «التعليم حق لكل مواطن كالماء والهواء» ففتح الباب واسعا للحراك الاجتماعي بين الطبقات، بعد أن عاشت مصر قرونا بين ثنائية الباشوات والعبيد.
في البحرين كانت لنا تجربتنا المشرفة مع التعليم، القريبة من روح الديمقراطية، وهو ما أتاح فرصة التعليم الجامعي للطلاب من الجنسين منذ الأربعينات والخمسينات، ولما رجعوا تولوا مسئوليات كبيرة في مؤسسات ووزارات الدولة حسب الكفاءة والقدرات.
ديمقراطية التعليم هذه يمكنك أن تتلمسها بسهولة في أسماء الكوادر الطبية والتعليمية والإدارية والصناعية هنا وهناك، من عوائل بعضها لم يكن لها شهرة، وإنما اشتهرت بفضل بروز أبنائها وكفاءتهم واجتهادهم في تحصيل العلم والمعرفة.
هذه التجربة الرائدة التي تعتبر من أهم منجزات الدولة بعد الاستقلال، تتعرّض في السنوات الأخيرة إلى امتحان عسير، بسبب حسابات سياسية ضيقة فرضتها تحالفات مرحلية، سيكون لها وقع سلبي على التجربة التعليمية كلها في المدى المنظور.
ربما يمكن غض الطرف عن وزارات أخرى لو سقطت ضحية التحالفات و«المحاصصات»، حتى وزارة الإعلام لو أصيبت بهذا الوباء لن يكون لها ذلك الأثر لأن كثرة من البحرينيين لا يتابعون برامج الإذاعة والتلفزيون، لبعدها عنهم وعن تطلعاتهم وهمومهم، ولكن الاستئثار بوزارة التربية والتعليم أمرٌ ينذر بالخطر. فهذه الوزارة هي الحاضنة الأولى التي يتلقى فيها التلميذ دروسه الأولى في المواطنة كما يتعلّم كتابة الحروف والأرقام. وهي البوتقة التي تنصهر فيها مختلف المذاهب والأجناس والأعراق، وتذوب الفوارق والتمايزات.
تسليم هذه الوزارة إلى تيار سياسي معين ليتمكن من رقبتها، توظيفا وتدريبا ومناهج، أمرٌ يدعو للمراجعة والنقد. فهذه الوزارة التي تستضيف أكثر من ربع سكان البحرين في صفوفها لمدة تسعة أشهر كل عام، الأولى أن تبقى خارج لعبة «المحاصصات»، فهي الملجأ الأخير الذي نعوّل عليه كمواطنين في خلق المواطن الصالح العابر للطوائف والقبائل والأعراق. سقوط هذه الوزارة في حضن تيار سياسي معين يعني سقوط آخر القلاع والآمال ببناء وطن يضم الجميع.
فيما مضى عانى المئات من سياسة التوظيف الخاطئة، وكشاهد عيان، سمعت عشرات المرات من موظفي قسم التوظيف عبارات فاضحة مثل «أنتم ليس لديكم واسطة»، أثناء مراجعة إحدى القريبات من خريجات جامعة الكويت العام 1997، وكانت النتيجة إضاعة سبع سنوات من عمرها على رصيف البطالة، بينما كان يجري توظيف خريجات (عندهن واسطة) كل عام، واحتاج تعديل هذا الواقع الظالم إلى قرار سياسي رفيع العام 2003.
اليوم، هناك سياسةٌ خاطئةٌ أخرى، تتضح معالمها في مجال الابتعاث للدراسات العليا، التي يخصص ثلثها لفئة «المجنسين الجدد»، والثلثان من لون مذهبي واحد، ومع احترامنا للجميع نقول: إذا تمّ تكريس هذه السياسة، فإنها ستكون أكبر ضربة لأعظم منجزات الحكومة بعد الاستقلال: ديمقراطية التعليم.
من السهل أن تنفي مديرة إدارة العلاقات العامة والإعلام منح الدراسات العليا على أساس طائفي، ولكن من الصعب أن تقنع الرأي العام بـ «معايير» لا تنطبق إلاّ على المجنسين الجدد أو المرشحين من لون مذهبي واحد. فالأرقام الأولية تشير إلى تقديرات بوجود 50 بعثة خلال السنوات الخمس الأخيرة حسب محاصصة «الثلث» و«الثلثين».
المواطنون المتضرّرون من تكريس هذه السياسة الخاطئة نتيجة تسليط تيار سياسي مؤدلج، هم الذين يطالبون الوزارة بالشفافية و«كشف المعايير»، حين يرون ابتعاث مجنّسة حديثا، لم يمض على توظيفها أكثر من عام، بينما تشترط المعايير مرور خمس سنوات. وهو انقلابٌ على أكبر منجزات الدولة، يحتاج إلى جرأةٍ لتصحيحه... بدل أن تكون شاهدة زور!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1796 - الإثنين 06 أغسطس 2007م الموافق 22 رجب 1428هـ