تثير ظاهرة المجتمعات المسيجة (مجمعات سكنية مغلقة، مدن مسيجة) ردود فعل متعددة بين مؤيدين وآخرين منتقدين. البعض يعتبر أن هذه الظاهرة مقلقة، وهي لا تحقق الأمن ولا تعزز روح الجماعة، فوضع البوابات والأسوار على المدن الجديدة، مع الحراسة الخاصة للمداخل تؤدي إلى منع الوصول والتواصل وتؤدي إلى تفكيك المجتمع طبقيا ومناطقيا.
المدن المسيجة تختلف عن العمارات السكنية ذات الحراس أو البوابين، فهذا لا يعتبر ضمن هذه الظاهرة، ذلك لأن المجتمعات المسيجة هي تلك التي تستبعد عامة الناس من الوصول إلى الأماكن العامة مثل الأرصفة والشوارع، ما يمثل تراجعا عن المجال العام، وهو اتجاه مقلق للاجتماعيين الذين ينظرون إلى مفهوم المواطنة على أساس جغرافي ونفسي وثقافي.
ويرى المختصون أن المجتمعات المسيجة تطرح الانفصال المادي بين الناس بوصفه منهجا للحياة والرفاه، ويختفي بذلك معنى الجوار بالمفهوم المتعارف عليه تقليديا، وهذا الاستبعاد يفرض كلفا اجتماعية ويقلل من عدد الأماكن التي يمكن أن يساهم ويتشارك فيها الجميع، وبالتالي تقل الاتصالات بين الناس من مختلف الفئات، هذه الاتصالات التي لولاها لما تكون مجتمع مترابط ضمن وطن واحد في الأساس.
ثم إن المجتمعات المسيجة، بحسب الناقدين، تزيد الانقسامات بين المدن والقرى والضواحي، وتخلق مناطق للأغنياء وأخرى مهملة للفقراء، وتخلق أنماطا جديدة من العزلة والتهميش وتضع خطوطا فاصلة على أساس الثروة، وتكون مجتمعات «تملك» وأخرى «لا تملك»، وهو نمط من التفتت الاجتماعي الذي يمس الإحساس بالمواطنة.
خلال السنوات القليلة المقبلة سنجد في البحرين الكثير من المدن المسيجة بالكامل التي لن يستطيع المواطن العادي النظر إليها ناهيك عن الدخول فيها والاستفادة من الخدمات التي تقدمها إلا إذا كان من أصحاب الثروات.
آخرون يقولون إن البوابات والحواجز ربما غير موفقة ولكنها ضرورية، لأن هناك من يشعر أن هذه الإجراءات هي السبيل الوحيد لاستعادة الأحياء الجميلة وحماية أمن ومصالح الجماعات التي تود أن تعيش داخل تلك السياجات ضمن ترتيبات استثمارية، وأن ضخ الأموال في هذه الأحياء المسيجة يزيد من جمال البلاد.
لقد انتشرت المجتمعات المسيجة في البحرين منذ ثلاثينات القرن الماضي عندما أنشئت مدينة عوالي الخاصة بشركة «بابكو» ليعيش فيها موظفو الشركة الأجانب في مجتمع أقرب إلى وطنهم الأم منه إلى المجتمع البحريني المتخلف في وجهة نظرهم في ذلك الحين وبعد مدينة عوالي انتشرت المجمعات المغلقة (الكمبونات) بشكل لافت في غالب مدن وقرى البحرين لتفصل من هم داخل السياج عن من هم خارجه.
خلال هذه الندوة التي استضفنا فيها المحلل الاقتصادي أكبر جعفري والممثل البلدي في المحافظة الشمالية سيدأمين الموسوي والناشط البيئي غازي المرباطي إلى جانب العقاري ناصر الأهلي سنحاول الإجابة عن الأسئلة المشروعة بشأن آثار هذه المجتمعات الإيجابية والسلبية على المجتمع البحريني:
يرى البعض أن الطفرة العمرانية لن تعود بمردود على الاقتصاد الوطني، وأن التنمية التي لا تعود على المواطنين بالفائدة هي ليست تنمية حقيقية. هل تتفق مع ذلك؟
- جعفري: من الملاحظ أن الطفرة العمرانية الحالية مبنية على جانب واحد فقط وهو الجانب التجاري ولم تتم تلبية احتياجات الجانب الاقتصادي، فكل ما في الموضوع أن إحدى الشخصيات أو الشركات لديها فائض مالي وقامت باستثماره عبر إنشاء بنايات أو مجموعة فلل ولم تتم مراعاة الجوانب الأخرى البيئية والاجتماعية والأمنية.
- الموسوي: نحن نعيش في مجتمع إسلامي يؤمن بالتكافل الاجتماعي وعدم التفرقة بين الغني والفقير، كما أن الدولة تؤمن أن المواطن هو رأس المال الأساسي لهذا الوطن ولذلك تسعى جاهدة لتنمية الموارد البشرية، وإذا ما وضعنا حواجز وأسوارا عالية بين المواطنين وجعلنا المجمعات التي يسكنها الأغنياء محروسة بحراسة مشددة تمنع الناس من الدخول إليها فإن المواطن العادي سيحس بأنه غريب في وطنه. في حين أنه في الدول المتقدمة كبريطانيا والولايات المتحدة لا يوجد مثل هذه الأسوار وإنما المواطنون يستطيعون الدخول لأي مكان وأية مدينة.
- المرباطي: نحن في البحرين بحاجة ماسة إلى إبعاد الهاجس الأمني عنا، بدليل أن الكثير من المشروعات التي طرحتها الدولة لاقت صعوبات في تطبيقها بسبب أن هذا الهاجس هو المسيطر.
أود أن اسأل هنا عن الدافع الذي يدفع القائمين على هذه المشروعات بتسييج المدن، هل هم يريدون أن يخلقوا دويلات صغيرة داخل الدولة أم أن يضعفوا من الترابط والتلاحم بين مختلف طبقات وفئات المجتمع؟
السؤال الذي يطرح نفسه هل البحرين قادرة على استيعاب هذه المشروعات الضخمة؟ ومن الذي سيسكن هذه المدن الجديدة التي نعد الوحدات السكنية فيها بالآلاف وخصوصا أن معظم المواطنين لا يستطيعون تحمل كلفة السكن فيها فهل أنشئت للأجانب فقط؟
- الأهلي: في الوقت الحالي فإن مختلف أنواع المشروعات تقام في البحرين من جزر ومدن سكنية لعمارات ومجمعات تجارية ولو قصرناها على البحرينيين فقط لفاضت عن الحاجة، فهذه المشروعات يمكن أن تستوعب أكثر من 250 ألف شخص، في حين أن الطلبات الإسكانية الموجودة لدى وزارة الأشغال والإسكان لا تتعدى 50 ألف طلب، ولكن السؤال المطروح: هل أن هذه المشروعات تستهدف المواطن البحرين؟ ومثلما قلت سابقا لو أن هذه المشروعات المقامة تأتي بالتوازي مع مشروعات إسكانية وسياحية موجهة للمواطن البحريني لكان الوضع أفضل كثيرا.
أرى أن الحكومة في الفترة الأخيرة بدأت في الأخذ بهذه التوجهات من خلال استملاك الكثير من الأراضي لإقامة عدد من المشروعات الإسكانية، كما أن تقرير الشركة الأميركية عن تخطيط الأراضي في البحرين أوصى بتخصيص أراضٍ ساحلية للمواطنين ونتمنى أن يؤخذ بهذه التوصيات.
- الموسوي: المشكلة تكمن في أننا نبني مدنا وعمارات سكنية ضخمة لاستقطاب الأجانب، ولكن في المقابل تعاني خدماتنا من نقص حاد، فهناك نقص في الكهرباء والماء والخدمات الصحية وضيق الشوارع والزحام وغيرها من الأمور.
- الأهلي: في جميع دول العالم تكون الأماكن العامة والسواحل مفتوحة لجميع المواطنين؛ ففي أبو ظبي مثلا حتى الجزر القريبة منها بإمكان المواطن زيارتها ونحن نريد أن يكون الوضع في البحرين مثل باقي دول العالم، وأقل ما يمكن القيام به في الوقت الحالي هو استملاك الأراضي والسواحل الموجودة للمنفعة العامة، كما يمكننا تطبيق قانون تملك الخليجيين وهو قانون موحد لجميع دول مجلس التعاون الخليجي ويحدد المساحات التي يمكن شراؤها لغير المواطنين وفصل الأراضي السكنية وبيعها للمواطنين فقط، وذلك ما كنا نطالب به من خلال جمعية العقاريين منذ فترة طويلة وقمنا برفع عدة مذكرات بذلك لمجلسي الشورى والنواب.
- المرباطي: من اطلع على المخطط الاستراتيجي لمملكة البحرين الذي وضعته الشركة الأميركية يلاحظ أن ما بقي من مساحة الأراضي الساحلية التي تمتلكها الدولة لا يتعدى 3 في المئة من مجموع الشواطئ البحرينية، ولذلك نحن نتساءل: ماذا بقي لكي تستملكه الدولة للمنفعة العامة. فعلا هناك شحّ في الأراضي عموما بدليل أن محافظة المحرق تبحث عن قطعة أرض لإقامة مستوصف صحي عليها ولم تجد لحد الآن؛ فجميع الأراضي في المحافظة مستملكة.
من حق القطاع الخاص أن يسعى إلى الربح من خلال استثماره في القطاع العقاري ولكن لماذا لا يقوم القطاع الخاص بالاستثمار في المساكن الخاصة بالمواطنين؟
- جعفري: إن أي مستثمر يركز على المردود المادي تحديدا - وذلك من حقه - فهو يستهدف الطبقة التي لديها قوة شرائية عالية، ولكن على الحكومة والمجتمع التقليل من التبعات المصاحبة لهذا التوجه، ولدينا تبعات كثيرة، لذلك تم الحديث عنها وأضيف إلى هذه التبعات التبعات التراثية والتاريخية وأعطي مثالا على ذلك فرضة المنامة التي كانت تشكل جزءا من ذاكرتنا وتراثنا والتي انتهت تماما ما مثل خطأ في حق المجتمع.
- الموسوي: هناك مشروع بقانون في مجلس النواب لحفظ المناطق الأثرية والتاريخية وعدم بيعها باعتبارها أراضي، صحيح أن بعض هذه المناطق لا تحتوي إلا على عدد قليل من القبور التاريخية والتلال الأثرية، ولكن ذلك يشكل تاريخا لا يمكن تعويضه في المستقبل عندما تقام عليها مجمعات سكنية.
- المرباطي: أود أن أضيف بعض المعلومات فيما يخص الجانب البيئي، فنحن بوصفنا نشطاء بيئيين نعتقد أن التوجه لإنشاء المنتجعات البحرية التي تنشأ على شكل جزر اصطناعية تشكل خطرا مباشرا على البيئة البحرية، فبحسب بعض التقديرات فإن حجم كميات الأحجار والرمال التي ألقتها إمارة دبي لوحدها في وسط البحر لبناء جزر اصطناعية بلغت مليار طن، فإذا أضفنا ما قامت به باقي دول الخليج فإن مجموع ذلك سيشكل كميات مهولة من المواد التي يتم بها ردم البحر والتي تؤثر سلبا على الحياة الفطرية في البحر، فبحسب منظمة «الفاو» فإن حوض الخليج العربي يقدر المخزون السمكي فيه بـ600 ألف طن والمستغل منه حاليا يقدر بـ165 ألف طن. وتستطيع الدول المطلة على الخليج أن ترفع نسبة استغلال هذا المخزون إلى 216 ألف طن، ولكن هذا المخزون يحتاج إلى بيئات ليتوالد فيها وينمو ويتغذى منها، وفي ظل هذه الوتيرة المتسارعة من عمليات الدفن فإنه لابد أن نعتدي على هذه البيئات، ولذلك فإن هناك قوانين دولية تجيز لكل دولة مطلة على حوض معين أن تحتج لدى الأمم المتحدة إن كانت هناك دولة أخرى تدمر البيئة البحرية، وحتى إن كان ضمن حدودها الإقليمية؛ لأن في حالة تدمير البيئة الحاضنة للحياة البحرية فإن المخزون السمكي سيقل بشكل أو بآخر، وهو يشكل غذاء استراتيجيا لشعوب المنطقة.
ولذلك نجد التأثير السلبي للتلوث وعمليات الردم في حوض الخليج العربي من خلال التقرير الاقتصادي العربي الموحد لسنة 2006، إذ كنا نعتقد بأن الخليج العربي وبحر عمان يأتيان في مراتب متقدمة من حيث كمية المخزون الاستراتيجي للأسماك فيهما وحيوية البيئة، ولكنا اكتشفنا أن كمية الإنتاج السمكي في كل أنحاء الوطن العربي تقدر بنحو 4 ملايين طن سنويا، 46 في المئة منها من الدول المطلة على المحيط الأطلسي، و32 في المئة من الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط الذي كان في وقت سابق من أكثر البحار تلوثا في حين ينتج الخليج العربي 19 في المئة والباقي من البحر الأحمر. وكان الخليج العربي في السابق يتصدر الدول المنتجة للأسماك، ولذلك أقول إن لدينا تقارير تشير إلينا بأهمية المحافظة على البيئة البحرية.
كيف ترون البحرين بعد 10 سنوات من الآن، هل تعتقدون بأنه سيكون هناك مجتمع منقسم لعدة طبقات منفصلة عن بعضها بعضا بسبب مشروعات المدن المسيجة، أم أن المجتمع البحريني سيحافظ على تماسكه وترابطه بغض النظر عن التفاوت الاجتماعي والطبقي؟
- جعفري: إن التكوين الاجتماعي للمجتمع البحريني ومنذ قديم الزمان يرفض الطبقية، والدليل على ذلك أنه لم تكن موجودة لدينا مناطق خاصة بالأعيان ومناطق خاصة بالطبقة الوسطى وأخرى بالطبقات الفقيرة، وإنما كل منطقة وكل مدينة أو قرية تحتوي على جميع هذه الطبقات، بخلاف الكثير من الدول التي تفصل بين طبقاتها مناطق معينة. ولكن بعد إنشاء المدن الجديدة التي ستكون مسوّرة بالكامل، فإن من يستطيع السكن داخل هذا السياج من المؤكد أن لديه قدرة مالية كبيرة، وبذلك ستجمع هذه المدن طبقة معينة معزولة. وبطبيعة الحال لن تتفاعل هذه الطبقة مع باقي المجتمع.
العدد 1796 - الإثنين 06 أغسطس 2007م الموافق 22 رجب 1428هـ