ثلاث سنوات مرت... ومازالت أطياف الحاج عبدالله علي فخرو تمر بنا وتعيش معنا، نستذكره كلما ادلهمت الخطوب وحلّقت غربان الفتن فوق رؤوس هذه الأمة المستباحة.
ولوعاش حتى اليوم ورأى الخضوع الجماعي للمستعمر وكيف يتكالب الأعداء على أمة محمد (ص)، لصاح بأبيات الشاعر الكويتي فهد العسكر، التي كان يكرّرها كثيرا في المعتقل:
يا بني العُربِ إنما الضعف عارٌ
إي وربي اسألوا الشعوبَ القوية
فمن العار أن نعيش عبيدا
أين ذاك الإباءُ؟ أين الحميّة؟
لم يكن فخرو (رحمه الله) شخصية عابرة لتخبو كما تخبو النيازك والنجوم الصغيرة، ولكنه كان شعلة في سماء الوطن، وداعية حق وإصلاح، وصاحب موقف لا يصمد فيه إلاّ نوادر الرجال.
دخل المعتقل لأول مرة في العام 1965على أيام المستعمر البريطاني، وهناك من معاصريه من يؤكّد أنه دخل السجن قبلها، على أيام «الهيئة» في الخمسينات. فهو لم يكن طارئا على ساحة السياسة، بل كان مندمجا في الشأن العام منذ الشباب. ومع أن خطابه مرّ بمراحل، لكنه ظلّ صافيا جامعا وطنيا، يتكلّم باسم المواطنين البسطاء، الذين يبادلونه حبا بحب، لأنه يعبّر عما يجيش في نفوسهم، خصوصا في عهد سطوة قانون «أمن الدولة»، حين لم يكن يجرؤ أحدٌ على الحديث، خوفا على الرزق أو من المطاردة والملاحقات الأمنية.
في مدينته (المحرق)، حيث ظلّ جيل السبعينات والثمانينات مغيّبا عن الحركة السياسية، ربما لما دفعه الآباء من فواتير مواقفهم القومية في الستينات، ظل وحده يصدح بكلمة الحق، على رغم ما كان يناله من رجال «الموالاة». حتى هؤلاء كانوا يعترفون في الأحاديث الخاصة بأهمية ما يجأر به من رأي ونقد، وفي قرارة أنفسهم يعترفون بقيمة دعوته التي لم تأت اعتباطا وإنما بسبب ما يراه من ظلم وظلمات.
فخرو تكلّم في وقت آثر الكثيرون السلامة والأمان الشخصي، وعلى رغم طول السفر ووحشة الطريق، لم يفقد الأمل، وظلّ يحمل الشعلة وحده ويبشّر بمولد الضياء ويدعو إلى العدل... ويكرّر مواعيد النبوة: «لا تظلموا... فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة. اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم».
كان العدل هاجسه، وكان الظلم يؤرقه، وكان مستعدا للصبر على السجن وليس على المداهنة، جريا على سنّة الرجال الكبار. وعندما كان يقدّم إلى المحكمة ولا يجد القاضي ما يدعو لإدانته فيأمر بإطلاق سراحه، تسعى بعض الأجهزة لاحتجازه بقرارات إدارية. وهناك يُودع مع سجناء الجنايات، إمعانا في العقوبة والتنكيل. وحتى في تلك الأقفاص، كان الله يفتح على يديه بابا لهداية بعض البشر المبتلين بالخطايا، فيأخذ بأيديهم ويؤمهم في الصلاة ويوصي عائلته بالتواصل مع عوائلهم، فدأب الرجل الكبير توزيع البشائر والضياء. حتى السجّانين كانوا يتحرّجون من الرجل ذي اللحية البيضاء، فيعتذرون له في السر، ويقولون: «انه ليس بيدنا، نحن مأمورون».
وفي السجن، في مثل هذه الفصل القائظ، حيث تتحول الزنازين قبورا بلا منافذ للتنفس ولا ماء، كان يطلب بعض الماء البارد ليبل ملابسه ويرتديها ليتمكن من النوم برهة من الليل. وكثيرا ما حُمل حملا إلى عيادة «القلعة» للإنعاش وتلقي العلاج.
اليوم... أطلت يا عمّ الغياب، حيث لا زنزانة ولا ظلمٌ ولا ظلام. اشتقنا لك حقا واشتاق لك الوطن بجناحيه، ونحتسبك عند الله الذي لا يظلم عنده أحد.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1795 - الأحد 05 أغسطس 2007م الموافق 21 رجب 1428هـ