العدد 1795 - الأحد 05 أغسطس 2007م الموافق 21 رجب 1428هـ

طوائف لبنان... والدولة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

يفترض أن تكون أعلنت ليل أمس نتائج الانتخابات الفرعية التي جرت في دائرتي المتن الشمالي وبيروت الثانية. وبغض النظر عن حصيلة الاقتراع فإنّ المعركة تعطي مؤشرات سياسية على مزاج الشارع اللبناني في طرفيه المسلم والمسيحي.

المعركة لن تحسم موازين القوى، ولكنها على الأقل ترسم تلك الحدود الفاصلة بين منطقين: الطائفة أم الدولة أوّلا.

فكرة الولاء للدولة في لبنان ضعيفة ولا يتوقع لها أنْ تنتصر على الهوية الطائفية التي يبدو أنها لاتزال الأقوى في تحريك المشاعر وتوليد آليات سياسية تشد هذا الطرف ضد ذاك. وعلى هذا الأساس يمكن قراءة الكثير من تفصيلات المشهد السياسي الذي ظهر واضحا في منطقة المتن أكثر من دائرة بيروت.

معركة المتن مهمة جدا في هذا المضمار ؛ لأنها تساعد على مراقبة التحوّلات في المزاج الشعبي (المسيحي) وتساهم أيضا في تلمس اللاوعي الطائفي ومدى تأثر الناخب في الشعار المطروح.

تيار الجنرال ميشال عون ركّز حملته الانتخابية على مسألة «تهميش المسيحيين». فالفكرة تدغدغ مشاعر الناخب المسيحي ؛ لأنها تلعب على أوتار حساسة تقوم على فرضية الظلم وتراجع الموقع أمام المد الإسلامي في شقيه السنّي والشيعي. وطرح شعار «التهميش» في معركة متنية ضد مراجع مسيحية مسألة مضحكة ؛لأن قادة الطرف المضاد خاضوا معارك ضارية دفاعا عن «الوجود المسيحي» و»الأمن المسيحي» في سبعينات وثمانينات القرن الماضي. إلا أنّ للمسألة جانبها المبكي فهي تشد الرحال نحو الطائفة والحصص الطائفية والصلاحيات الطائفية وتبعد الناخب عن فكرة الدولة والصيغة اللبنانية (تعايش الطوائف) وتوزيع الحصص وما تعنيه من مستلزمات قانونية كالسيادة والاستقلال والحرية وغيرها من نقاط تمس وجود الكيان السياسي اللبناني.

تيارالرئيس السابق أمين الجميّل ركّز حملته الانتخابية على مسألة «ريف دمشق». فالفكرة تثير المخاوف في الشارع المسيحي، لأنها تعيد التذكير باحتمال عودة النظام السوري إلى لبنان الذي تتهمه قوى «14 آذار» بالوقوف وراء الاغتيالات والفوضى الأمنية وزعزعة الاستقرار ومنع اللبنانيين من التفاهم على بناء دولة موحّدة وقوية وقادرة.

طرح شعار «الريف» في معركة متنية ضد قوى مسيحية واجهت النظام السوري في معارك مختلفة مسألة يصعب قبولها لدى شارع دفع الكثير من امتيازاته في العقود الثلاثة الماضية. ولكن للمسألة وجهها الآخر الذي يكشف عن بدء تبلور ذهنية سياسية تغلب الدولة وسيادتها على الطائفة وحصصها. فطرح شعار «ريف دمشق» فيه دعوة مبطّنة للتصالح على الصيغة اللبنانية (تعايش الطوائف) وحماية الكيان السياسي والدفاع عنه ومنع القوى الإقليمية من التدخل في شئونه المحلية.

الشعاران (تهميش المسيحيين وريف دمشق) تحريضيان، ولكنهما في النهاية يعكسان أولوية في جدول أعمال كل فريق. فمَنْ يطرح فكرة «التهميش» يعني أنّ الأولوية لديه للطائفة والحصص والصلاحيات الخاصة وهي تأتي على رأس جدول أعماله قبل الدولة والسيادة والكيان والصيغة والتعايش. ومَنْ يطرح فكرة «الريف» يعني أنّ الأولوية الآنَ للدولة والسيادة والكيان والصيغة والتعايش وهي تأتي على رأس جدول أعماله قبل الطائفة والطائفية والحصص والصلاحيات الخاصة.

الناخب في المتن الشمالي كان أمس أمام أولويتين: لبنان الطائفة أوّلا أم لبنان الدولة أوّلا.

مزاج ناخب

الاختيار بين الطائفة والدولة يعني الكثير لبلد يعاني من التمزيق الأهلي وهناك مخاطر حقيقية تهدد كيانه وتبعثره على فيدراليات مذاهب ومناطق كما بات حال العراق الآنَ. والنتيجة في الانتخابات لن تقرر نهاية دولة، ولكنها ستعطي صورة مصغرة عن المسار العام الذي يتجّه إليه لبنان في السنوات المقبلة. فالتصويت لخيار الطائفة في بلد يعتمد نظام الملل والنحل يعني أنّ الطائفة لاتزال هي المحرك (الدينامو) النفسي السيكولوجي للناس. وخيار الطائفة يعني أنّ الوعي السياسي في البلد لم يتطوّر إلى مستوى فهم معنى الدولة وبالتالي سيعود لبنان إلى درجات أدنى من التدهور القائم الآنَ. أمّا خيار الدولة (وهو مستبَعد في بلد طائفي) يعني أنّ الوعي السياسي ارتقى وتجاوز حدود الطائفية وبات العقل الباطني (اللاوعي) يتقبّل فكرة سياسية أرقى تحتوى التعارضات في وعاء متقدّم في درجاته على حال التفكك والتشرذم القائم الآنَ.

قبل إعلان النتائج التي يفترض أنها اذيعت رسميا ليل أمس يرجّح أنْ يذهب مزاج الناخب إلى خيار الطائفة قبل الدولة، وذلك لسبب بسيط وهو أنّ «الفكرة اللبنانية» التي مضى على تأسيسها رسميا أكثر من 87 عاما لم تتحوّل بعد إلى فكرة دولة وهي لاتزال حتى الآنَ تعاني من الانقسامات المذهبية والطائفية والمناطقية والعشائرية.

انتصار «حقوق» الطائفة لا يؤكّد بالضرورة أنّ تيار الجنرال عون هو الأقوى سياسيا ويملك أكثرية شارعية وإنما يشير إلى أنّ مزاج الناخب لايزال يتحرك تحت سقف سيكولوجية الطوائف وتنافرها وتعارضها. وهذه السيكولوجية ليست نتاج حراك نفسي وإنما تعتمد في مولداتها الشعورية على تربة اجتماعية تبرر للقوى السياسية الاعتماد عليها واستخدامها وسيلة للاستنفار والحشد والتعبئة والتثوير والتحصن ضمن حدود تضمن لكل فريق حصته أو امتيازاته.

انتصار «سيادة» الدولة مسألة مستبعدة نظريا على الأقل سواء في معركة المتن الشمالي أو في دائرة بيروت الثانية. فكرة الدولة في لبنان ضعيفة وهي لا تحرك المشاعر الساكنة في الطوائف والمذاهب. والفكرة أيضا جديدة في الوعي السياسي اللبناني الذي تربى طوال عقود من الزمن تحت سقف نظام الملل والنحل. لذلك فإنّ مفهوم الدولة الغامض أضعف من هيكل الطائفة وحقوقها ومصالحها وامتيازاتها. فالدولة في لبنان سياسيا هي الأضعف. وكل طائفة في بلد الأرز تملك من القواعد الشعبية والإمكانات التعبوية والجذور التاريخية ما يكفي من سنوات تضرب بقوة في عمق الزمن. الموارنة كطائفة مثلا يعود تاريخها إلى فترة البيزنطيين والكنيسة المارونية تمتد زمنيا نحو 1400 سنة بينما الموارنة كدولة فهي قوة سياسية معاصرة تعود في أحسن حالاتها إلى العام 1840 (167 سنة). كذلك يمكن القول عن الطوائف المسيحية الأخرى (الكاثوليك والأرثوذكس والأرمن والسريان والكلدان والأقباط). والأمر نفسه يمكن سحبه على كل الطوائف المسلمة التي يعود تاريخها إلى 1200 أو 1300 سنة وما فوق باستثناء الدروز التي تعتبر الطائفة الأحدث نسبيا ويعود زمنها إلى أيام الدولة الفاطمية في مصر (ألف سنة تقريبا).

المسألة إذا متشعبة في بلد تأسس سياسيا على قوة الطائفة وضعف الدولة. وبما أنّ الدولة حديثة كفكرة لبنان فيرجّح أن يكون مزاج الناخب أكثر قربا من شعار «تهميش المسيحيين» وأبعد نفسيا من شعار «ريف دمشق».

إلا أنّ سيكولوجية الطوائف في معنى من معانيها تتحرك أيضا على مجموعة أضداد لا تتوقف على شعارين تحريضيين. فالطوائف اللبنانية مجتمعة بعيدة عن مفهوم الدولة المعاصر (الحداثي)، ولكنها في الآنَ ضد بعضها بعضا وتعتمد في سياساتها الدفاعية على مجموعة تكتيكات إذ تتوافق أحيانا على خصم مشترك إذا كان الخصم من الفريق الآخر (مسيحيون ضد مسلمين أو العكس). وهذا الأمر حصل في انتخابات 2005 حين نجح الجنرال في حشد الشارع المسيحي بغالبية 65 إلى 70 في المئة ضد الشارع المسلم. إلا أنّ تكتيكات الطوائف تتزعزع وتختلف وربما ينقلب مزاجها إذا كانت المعركة في داخلها (مسيحي ضد مسيحي أو ماروني ضد ماروني). وهذا الأمر حصل أمس في انتخابات المتن. فالجنرال لم يطوّر شعاره السابق (تهميش المسيحيين) الذي استخدمه بنجاح ضد التحالف الرباعي المسلم (السنة والشيعة والدروز) وتكتل «قرنة شهوان» المسيحي في معركة 2005. تكرار استخدام الشعار نفسه في معركة تعتمد على آليات مختلفة أسقط الكثير من الأوراق من صناديق الجنرال، وأدى إلى تراجع شعبيته بنسبة تقدّر بين 10 و15 في المئة، وذلك بحسب المنطقة أو الطائفة أو المذهب. فالتهميش الذي طرحه في وجه بيت مسيحي ماروني (آل الجميّل) عُرِف عنه دفاعُه المتواصل عن «الوجود» و»الأمن» و»الحقوق» التي تضمن حصة الطائفة المارونية ظهر أمام الكثير من الجمهور المتني وكأنه مسألة مفتعلة وتثير العجب والاستغراب. وهذا الطرح (تهميش المسيحيين) أربك البطريركية المارونية وجعلها غير قادرة على حَسْم موقفها السياسي لمصلحة عَون أو الجميّل إلا أنها أرسلت إشارات حاسمة إنسانية وأخلاقية لمصلحة التصويت لبيت الشهيد.

نتائج انتخابات المتن الفرعية يفترض أن تكون قد أعلنت ليل أمس وهي لا قيمة لها على المستوى السياسي العام، ولكنها ربما تمثل بداية مؤشر على مزاج الشارع المسيحي وتفضيله لخيار الدولة أوّلا أم الطائفة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1795 - الأحد 05 أغسطس 2007م الموافق 21 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً