العدد 1794 - السبت 04 أغسطس 2007م الموافق 20 رجب 1428هـ

الصراع الدولي على الخليج من السفينة إلى الناقلة

يربط الكثير من المحللين مسألة الصراع على الخليج بموضوع النفط. وهناك من يعتبر ان اهتمام الغرب (أميركا وأوروبا) بهذه المنطقة الاستراتيجية بدأ بعد اكتشاف مادة الطاقة التي تعتمد عليها صناعته وأن الاهتمام سيتبخر بعد نضوب الغاز والنفط. هذه الفكرة صحيحة جزئيا ولكنها تحتمل أيضا قراءة أخرى مخالفة تربط مسألة الصراع على الخليج بمجموعة عوامل جغرافية وتاريخية واستراتيجية تتصل بخطوط المواصلات والتجارة الدولية. واكتشاف النفط بكميات هائلة زاد من الاهتمام ورفع من نسبة الصراع ولكنه لا يشكل ذاك الأساس التقليدي الذي جعل من الخليج منطقة نزاع بين القوى الدولية الكبرى.

بدأ الاهتمام بالخليج امتدادا إلى بحر العرب والبحر الأحمر بعد سقوط آخر المواقع المسلمة في الأندلس في العام 1492. وتصادف سقوط غرناطة بعد بدايات نمو الملاحة الأوروبية وبدء ما يسمى بالاكتشافات الجغرافية التي أدت إلى انقلاب موازين القوى وتراجع موقع المسلمين (السلطنة العثمانية) في المعادلة الدولية. فالاكتشافات حققت اختراقا سياسيا فتح المنافذ لأوروبا باتجاه أميركا وكسر احتكار المسلمين خطوط التجارة نحو الشرق (الهند والصين).

آنذاك كانت أوروبا (وتحديدا البرتغال) تبحث عن معابر للقوافل التجارية بديلة عن طريق الحرير نظرا الى وقوعها في مناطق المسلمين. وبدأ البحث عن البديل بقيادة البرتغال التي كانت في ذاك الزمن الدولة الأولى في أوروبا. نجح البحار فاسكو دي غاما في الوصول إلى الهند (ميناء كلكوتا) من طريق الدوران حول إفريقيا في العام 1494. ومنذ تلك السنة بدأ الأوروبيون بقيادة البرتغال ثم إسبانيا في السيطرة على خطوط التجارة الدولية وبناء محطات للقوافل البحرية خارج إطار سوق التنافس مع المسلمين.

بعد تلك الخطوة أخذ الإسبان والبرتغاليون يجتاحون أطراف العالم الإسلامي وتأسيس مراكز عسكرية (مخافر أمامية) في الغرب (شمال إفريقيا) والخليج للضغط على السلطنة سياسيا وإرباكها في حماية الثغور وخطوط التجارة التقليدية في البحر المتوسط. فنجحت إسبانيا من جانبها في احتلال ميناء المرسى الكبير في الجزائر (سنة 1505) ثم وهران (سنة 1508) ثم بجاية (سنة 1510). ونجحت البرتغال من جانبها في الاستيلاء على جزيرة سوقطرة (سنة 1506) ثم مضيق هرمز (سنة 1509) والبدء في التخطيط للتسلل إلى موانئ الخليج.

آنذاك أخذ الصراع العثماني الصفوي يشتد على العراق وحصلت مواجهات بين الطرفين أعطت فرصة ثمينة للأوروبيين في تحسين مواقعهم وتثبيتها. حاول العثمانيون التخفيف من الضغط البرتغالي على السلطنة بعد سيطرتهم على بغداد في العام 1514 فاتجهوا إلى الحجاز في العام 1517 وطردوا القطع البحرية البرتغالية من البحر الأحمر. وفعلوا الأمر نفسه ضد القطع والمواقع البحرية الإسبانية في الجزائر في العام 1520 إلا أنهم فشلوا في طرد البرتغاليين من شواطئ المغرب (مراكش).

في هذه الفترة الحاسمة تجدد الصراع العثماني الصفوي على العراق. وتبادل الطرفان السيطرة على بغداد في العامين 1533 و1534 إلى أن نجح العثمانيون في التقدم العسكري إلى البصرة في العام 1546. ومنذ تلك السنة دخلت السلطنة في مواجهات متقطعة مع القوات البحرية البرتغالية التي نجحت في التسلل والعبور من هرمز إلى الخليج وشواطئ اليمن (باب المندب).

أثار نمو القوة البحرية العثمانية مخاوف الدول الأوروبية وبدأت الأخيرة تخطط للإيقاع بها حتى لا تعاود السلطنة السيطرة على خطوط التجارة التي أخذت تتهاوى موقعا بعد آخر. ونجح التحالف الأوروبي في إنزال هزيمة بحرية بالأسطول العثماني في خليج ليباتو في جنوب اليونان في العام 1571. وساهمت هذه المعركة في إضعاف السلطنة بحريا وتسهيل مهمة التوسع الجغرافي لأوروبا في بعض نواحي البحر المتوسط والخليج. إلا أن العثمانيين واصلوا تفوقهم على البرتغاليين في البحر الأحمر وامتداده في شرق إفريقيا والمحيط الهندي ونجحوا في طردهم من مقديشو (الصومال) في العام 1586.

هذا الصراع العثماني/ البرتغالي في البحر الأحمر والخليج، والصراع العثماني/ الإسباني في البحر المتوسط أنهك مع الزمن القوى الثلاث في وقت كانت بريطانيا تشق طريقها كقوة أولى في أوروبا والعالم. آنذاك أسست بريطانيا شركة الهند الشرقية في العام 1612 ثم بدأت تستعد للسيطرة على خطوط التجارة التي كان البرتغاليون يهيمنون عليها. وأدى تحالف بريطانيا مع الدولة الصفوية إلى تشكيل قوة إقليمية مشتركة نجحت في إنهاء الوجود البرتغالي هناك في العام 1623.

بدءا من النصف الأول من القرن الثامن عشر أخذت بريطانيا تعزز نفوذها على خطوط التجارة الدولية ونجحت في تثبيت مواقعها في غرب البحر المتوسط حين استولت على مضيق جبل طارق في العام 1704 وأخذت بمد نفوذها إلى جنوب إفريقيا وآسيا من خلال تطوير شبكة الملاحة التجارية لشركة الهند الشرقية.

آنذاك بدأ العالم يشهد سلسلة انقلابات في الموازين الدولية. ففي غرب أوروبا بدأ التنافس البريطاني - الفرنسي على شرق المتوسط (مصر وخط السويس) واتسع نطاق الصراع العثماني - الروسي في أوروبا الشرقية. وانتهى القرن الثامن عشر بنجاح بريطانيا في مد نفوذها إلى البصرة في 1764 وقيام فرنسا بإرسال حملتها العسكرية إلى مصر في العام 1798.

الصراع الفرنسي - البريطاني على خط السويس - البحر الأحمر - باب المندب جدد المخاطر على منطقة الخليج حين تحولت إلى ساحة للاقتتال الدولي في مطلع القرن التاسع عشر. ونجحت بريطانيا في العام 1800 في توقيع اتفاق تعاون مع أمير مسقط تعهد بموجبه عدم التعامل مع الفرنسيين. وشكل هذا الاتفاق نقطة ارتكاز سياسية - تجارية للبريطانيين حين استخدموه لتوسيع مناطق نفوذهم في الخليج فأقدموا على تدمير ميناء رأس الخيمة في العام 1809 لشل حركة التجارة العربية مع الهند. بعدها أرسلت لاحقا أسطولها البحري وحاصرت أسطول قبيلة القواسم العربية ودحرته في العام 1819 لتبدأ بعد تلك المعركة البحرية في عقد اتفاقات مع أمراء مناطق الخليج العربية تضمن حرية الملاحة لشركة الهند الشرقية بدءا من العام 1820.

شكل هذا التحول نقطة قوة لبريطانيا فأخذت تضغط على دولة محمد علي باشا في مصر لإخراجه من الجزيرة العربية (الحجاز) ومنعه من توقيع اتفاقات مع أمراء وإمارات الخليج ونجحت في تسجيل مكاسب لمصلحتها حين استولت على ميناء عدن في العام 1839 تمهيدا لإخراج مصر من الحجاز والبحر الأحمر. وهذه المهمة حصلت بعد توقيع معاهدة لندن في العام 1840.

معاهدة لندن أضعفت مصر عربيا إذ أخرجتها من بلاد الشام وعزلتها في البحر الأحمر إلا أنها لم تقلل من أهمية الصراع الدولي على الخليج وخطوط التجارة. فهذا التنافس تجدد بين فرنسا وبريطانيا حين صدر امتياز شق قناة السويس في العام 1854. بريطانيا وجدت في الاتفاق المصري - الفرنسي محاولة لإضعافها في البحر الأحمر فاختلقت أزمة مع العثمانيين في الحجاز لتبرير ضرب ميناء جدة في العام 1858. واستخدمت بريطانيا ضغوطها على مصر وتركيا (العثمانية) في البحر الأحمر لتحسين شروط اتفاقاتها مع إمارات الخليج التي اضطرت إلى تقديم تنازلات أعطت بموجبها حق المراقبة العامة وتفتيش السفن العربية المتوجهة إلى الهند وغرب آسيا.

تثبيت مواقع بريطانيا في الخليج جاء عشية افتتاح قناة السويس في العام 1869 وهو حدث عالمي سيساهم في رفع نسبة التوتر الدولي في المشرق العربي ويزيد من حدة التنافس الفرنسي - البريطاني للسيطرة على القناة والبحر الأحمر.

نجحت بريطانيا في صراعها مع فرنسا، في احتلال مصر في العام 1882. وساعد هذا التحول الجيوبوليتكي لاحقا على أن تفرض القوة الأولى في العالم آنذاك وصايتها على إمارات الخليج بتوقيع اتفاقات تنص على الحماية في العام 1892 (مسقط والبحرين) ثم الكويت في العام 1899.

حتى هذه الفترة كانت ألمانيا خارج معادلة الصراع الدولي. فألمانيا آنذاك نجحت في التحول إلى قوة أوروبية منافسة بعد أن أقدم بسمارك على توحيدها في العام 1870. وبحكم موقعها الجغرافي في قلب القارة الأوروبية عانت ألمانيا من نقاط ضعف في قواتها البحرية بسبب وقوعها على منفذ بحري صغير نسبيا في الشمال وإحاطتها بمجموعة دول منعتها من مد نفوذها إلى المياه الدافئة (البحر المتوسط).

ساهم هذا الموقع الجغرافي في تشكيل قناعات استراتيجية ألمانية مخالفة لفرنسا وبريطانيا فاتجهت نحو تطوير إمكاناتها البرية لتكون قادرة على المنافسة الدولية من خلال تركيز أنشطتها التجارية على مد شبكة حديثة لسكك الحديد في أوروبا الشرقية ومنها إلى آسيا من طريق التعامل الإيجابي مع السلطنة العثمانية.

شكلت فكرة «القطار ينافس السفينة» حال توتر لدى بريطانيا وفرنسا وبدأ الصراع الدولي آنذاك ينتقل من السيطرة على البحار إلى محاولة منع ألمانيا من تشكيل خطوط تجارة موازية تعتمد على سكك الحديد البرية للتنافس على الأسواق الآسيوية. وفي فضاءات التوتر تلك نجحت ألمانيا في توقيع عقد مع اسطنبول في العام 1900 لإنشاء سكة حديد تربط دمشق بالحجاز (المدينة المنورة). وانتهت ألمانيا من بناء السكة في العام 1908، أي في السنة التي قامت بها جمعية الاتحاد والترقي بالانقلاب على السلطان عبدالحميد الثاني آخر السلاطين العثمانيين.

بعد الانقلاب دخل العالم في تحولات دولية تركزت مسارحها السياسية في القارة الأوروبية وتركت انعكاساتها السلبية على دول العالم وخصوصا التنافس على وراثة الرجل المريض (تركيا) ومواقعه وممتلكاته ونفوذه في أوروبا الشرقية والمشرق العربي والعراق ومصر ومنطقة الخليج.

آنذاك اندلعت الحرب العالمية الأولى وتحالفت فرنسا وبريطانيا ضد ألمانيا التي تحالفت مع جماعة الاتحاد والترقي الانقلابية في اسطنبول. وبسبب الحرب وضعت بريطانيا مصر تحت نظام الحماية في العام 1914، وهو عام شهد انفصال اليمن عن بقايا السلطنة العثمانية وإنزال بريطانيا قواتها في البحرين تمهيدا لاحتلال البصرة وجنوب العراق.

احتلال الجزء الجنوبي من العراق المطل على الخليج في العام 1914 شكّل نقطة تحوُّل إضافية في مسار الصراع الدولي على خطوط التجارة ومنع ألمانيا المتحالفة مع تركيا من الاستفادة من خط سكة الحديد الذي ربط شمال العراق بجنوبه الغني بالنفط. فالدولة الألمانية التي ربطت الحجاز بسكة حديد مع دمشق وتركيا نجحت في إقناع اسطنبول ببناء سكة أخرى تربط برلين ببغداد ومنها إلى البصرة. ورأت بريطانيا أن نجاح ألمانيا في هذه الخطة سيشكل لها ضربة قوية تهدد خطوط تجارتها البحرية وسيحول طرق التجارة البرية إلى قوة منافسة لسيطرتها الدولية.

سكة حديد برلين - البصرة كانت من العوامل المهمة التي ساهمت في استنفار القوى الأوروبية القديمة وتحالفها لمنع ألمانيا من إنشاء خط موازٍ يقلص من هيمنتها البحرية. وهذا ما تحقق لبريطانيا وفرنسا حين نجحتا في تطويق ألمانيا وإضعافها أوروبيا؛ ما أفسح المجال لتقدم الجيش البريطاني واحتلال بغداد في العام 1917 وهو العام الذي يصادف استيلاء بريطانيا على القدس والبدء في تأسيس دولة «إسرائيل» في فلسطين.

بعد الحرب العالمية الأولى التي انتهت في العام 1918 بهزيمة ألمانيا وتركيا جرت في نهر المنطقة العربية - الإسلامية روافد كثيرة من انتفاضات وهبات شعبية (ثورة مصر الدستورية بقيادة سعد زغلول في العام 1919 وثورة العشرين في العراق بقيادة العشائر) أدت إلى توقيع اتفاقات وتفاهمات جديدة.

مسألة النفط جاءت متأخرة عن هذه الصراعات الدولية التي اندلعت في منطقة الخليج منذ مطلع القرن السادس عشر. فالنفط شكّل لاحقا مادة إضافية وزاد من حدة التنافس الدولي ولكنه لم يكن أساس المواجهات التقليدية على المواقع الاستراتيجية والمنافذ التجارية والملاحة البحرية إلا بعد عشرينات القرن الماضي حين اكتُشِفَ بكميات تجارية في شمال العراق (أزمة الموصل 1925) ثم إمارات الخليج والسعودية. والأخيرة تعد اليوم الدولة الأولى المصدرة للنفط في العالم منذ اكتشاف احتياطاته الهائلة في العام 1933.

الصراع الدولي على الخليج لم يندلع مع برميل النفط وإنما بدأ من سفينة البضاعة والصراع على الملاحة البحرية ليأخذ بُعْدَه الجديد بعد اكتشاف حقول الطاقة وبدء نشاط ناقلات النفط.

العدد 1794 - السبت 04 أغسطس 2007م الموافق 20 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً