من الصعب ملاحقة الحكومة حين تتلكأ عن أداء واجبها تجاه تطبيق القانون باعتبارها مؤتمنة ومسئولة عن ذلك أو تعجز رغما عنها عن القيام بهذا الدور، وعلى الصحافة ومؤسسات المجتمع جميعها أن تكون ساهرة أبدا لعلها تقنعها بالقيام بجزء من دورها ووظيفتها. فالحوادث تتسارع وتكثر، لدرجة الإصابة بالغثيان والشعور باتساع الفتق على الراتق، فبالأمس جدار المالكية الذي استمر طويلا ولم يزله صاحبه إلا بالحوار وبعد الأخذ والرد مع أن الحكومة من حقها بل من واجبها استخدام القوة من أجل تنفيذ القانون، واليوم قام الشخص نفسه بوضع مصائد سدّت البحر على أهل المالكية، ومرة أخرى أهملت السلطة المسئولة دورها وتركته للآخرين من بلديين ووجهاء يطبطبون على ظهر فلان وعلاّن لعل هذا المتنفذ يقتنع ويرفع مصائده. الصحافة تصرخ في وجه قبّارين خليج توبلي فلا صريخ له من الجهات الحكومية المسئولة، وفي الوقت نفسه متنفذ آخر يقوم ببناء مجمع تجاري في وسط منطقة سكنية ومن دون القيام بالإجراءات القانونية، فيثير سخط الأهالي، ولكن ليس هناك من يسمع ليجيب، وآخرون يقومون بدفن البحر والاستيلاء على الأراضي بوضع اليد... الخ. وتتنوع القضايا بين التعدي على الثروات العامة وبين التعدي على الأنفس المحترمة بدم بارد... وتمّر علينا القضايا واحدة تلو الأخرى، ويطويها النسيان، لا نعرف متى ومن أين بدأ تاريخ هذه القضية أو تلك، ولا ندري متى سينتهي، ولكن الذي نعرفه أن من أشد الحوادث الأليمة ربما دم عباس الشاخوري الذي أوشك على الضياع والذي قُتل بالرصاص.
إذا ما الدور الذي تجيده الحكومة؟ بعد دقائق من إشعال إطار سيارة في منطقة نائية في إحدى القرى، فإن قوات مكافحة الشغب ستكون هناك من أجل تنفيذ القانون، وليتجمع خمسة أفراد مطالبين بلقمة عيشهم أو محتجين على وضع سياسي أو حقوقي معيّن، هنا يجيد رجال الداخلية دورهم الذي لُقنوا إياه بإتقان، فالقوة والقوة المفرطة الخيار الوحيد والأول والنهائي حتى لو أدى لإعاقة الأفراد وتكسير رجلين لشاب في موقع التجمع حتى ولو كان التجمع في صحراء قاحلة، أو على ساحل البحر، وكأنما القانون يبصر بعين واحدة وفي اتجاه واحد، بينما عمِيَت عينٌ عن الاتجاه الآخر الذي يخرق القانون ويخالفه يوميا.
هذه الصورة المليئة بالفوضى ناتجة عن خلل مزمن في التوازن بين سلطة الحكومة وسلطة الشعب. الخلل يكمن في هيكل العلاقة بين السلطات، وهي مشكلة دستورية تحتاج لإصلاح من خلال تعديل دستوري، وما لم يحدث ذلك، لن تجد هذه المعضلة طريقها للحل، وسيستمر اللهث وملاحقة الحكومة ومطالبتها بأداء دورها ووظيفتها من دون جدوى حقيقية. إنها عملية تشبه عملية تقطيع فروع شجرة ببطء ، كلما قُطع فرع نبت فيها عشرة خلال الفترة نفسها.هنا تغييب لحقيقة دور الشعب متجسدا في ضعف السلطة التشريعية والرقابية (مجلس النواب) تجاه الحكومة (السلطة التنفيذية). يُفترض أن السلطة التشريعية بمثابة الرأس من الجسد بالنسبة للأمة، ولكن الحكومة لا تخشى من السلطة التشريعية، إذ لا سبيل للأخيرة عليها، ولا دور لها في إقرار الحكومة فضلا عن تشكيلها أو حلها، فالسلطة التشريعية مخلوق يجيد الصراخ فقط، ولكنه من دون أنياب وأسنان ومخالب، ومن يخشى مخلوقا هذا حاله؟ بل طالما صرخ متأخرا بعد أن سمع صراخ الشعب والأمثلة في هذا المجال كثيرة.
لقد وضع الإمام علي (ع) يده على الجرح حين قال: «فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية... «فهذا يعني أن بناء الوطن شراكة لابد أن يكون لأهله دور مؤثر، ولا تصلح الحياة من دون تبادل التأثير بين الحاكم والشعب، بين الوالي والرعية. وعندما يكون للأمة دور وللحكومة دور، وعلاقة توازن بين الأطراف، حينها يكون نظام الحكم يحتوي في تكوينه الذاتي على عناصر المحافظة على استقامته، ويتوافر على أسباب النجاح وتراكم الإيجابيات، وذلك لأنه يحمل في داخله آليات ووسائل لتشخيص العيوب والقصور، وآليات لسد النقص وتدارك الأخطاء، وآليات لزيادة وتراكم الإيجابيات، وآليات تمنع أسباب النزوع نحو الاستبداد والدكتاتورية، وبذلك تتحقق أهم مقدمة لنجاح التنمية، وأهم عوامل وأسباب استدامتها والمحافظة على نجاحها.
إذا العلة الرئيسية لفساد الحياة تكمن في انعدام التوازن بين سلطة الشعب (الرعية) وسلطة الحكومة (الوالي)، ومن أجمل التعابير عن ذلك هذا المقطع لعلي بن أبي طالب (ع) الذي يستحق التأمل في فقراته: «... فليست تصلح الرعية إلاّ بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدى الوالي إليها حقّها كذلك، عزّ الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء، وإذا غلبت الرعية واليها أو أجحف الوالي الرعية، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت مطامع الجور، وكثر الإدغالُ في الدين، وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى، وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حدٍّ عُطِّل، ولا لعظيم باطل فُعل، فهنالك تذل الأبرار، وتعز الأشرار، وتخرب البلاد، وتعظم تبعات الله عز وجل عند العباد».
والنتيجة...لا حل جذري إلا يتعديلات دستورية مجزية تفعّل دور الشعب وتبني هيكلا سليما في العلاقة بين السلطات، بدلا من تغوّل الحكومة قبال السلطات الأخرى.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1794 - السبت 04 أغسطس 2007م الموافق 20 رجب 1428هـ