اليوم تبدأ معركة التصويت في دائرتي المتن الشمالي وبيروت الثانية. وليلا ستعلن نتائج يرجح أن تعطي فكرة موجزة عن مزاج الشارع اللبناني. فهل المزاج سيميل إلى تعزيز خيار إعادة بناء «الدولة» وترميمها من تحت أنقاض سياسة التقويض الإقليمية والجوارية ام انه سيغلب مصالح «الطوائف» وحصصها في كيان مهدد بالانهيار والاضمحلال؟ كل المؤشرات تميل إلى نوع من التعادل. والتعادل في بلد يعتمد نظام الملل والنحل يعني المزيد من الانقسام الأهلي/ السياسي. وعدم وجود قاعدة سوسيولوجية اجتماعية صلبة تضمن نهوض دولة قوية وثابتة لتضبط ايقاع المذاهب وتوازناتها السياسية يؤدي إلى تشرذم الولاءات باتجاهات متضاربة.
معركة بيروت الثانية تختلف عن المتن الشمالي في اشاراتها السياسية. فالأولى تقع بين المسلمين مع غالبية للسنة. والثانية تقع بين المسيحيين مع غالبية للموارنة. والاختلاف هذا لا يلغي البعد الرمزي للمعركتين. ففي بيروت الثانية هناك محاولة اختبار لمدى قوة تيار المستقبل (سعد الحريري) وقدرته على التأثير في دائرة متنوعة المذاهب والطوائف والأقليات على أنواعها. المعركة في بيروت الثانية ليست محسومة ولكنها تخاض بأسلوب مدني مقبول في درجة انفعالاته. كذلك معركة المتن الشمالي ليست محسومة ولكنها تخاض تحت سقف بلغ التوتر فيه درجة غير مسبوقة.
من الصعب تحديد النتيجة النهائية من الآن لاعتبارات مختلفة منها ان الدائرتين تتشكلان من مجموعات دينية وطائفية متنوعة تلعب دورها في ترجيح هذه الكفة على تلك. في دائرة بيروت الثانية هناك قوة تصويتية للشيعة والأرثوذكس والدروز وأقليات مسيحية وكردية ترجح المترشح السني على الآخر في حال لم ينجح احد المتنافسين في كسب نسبة 80 في المئة من الكتلة التصويتية السنية. وفي المتن الشمالي هناك قوة تصويتية للأرثوذكس والأرمن والشيعة والدروز وأقليات مسيحية أو مسلمة تجنست حديثا ترجح المترشح الماروني على الآخر في حال لم ينجح احد المتنافسين في كسب نسبة 80 في المئة من الكتلة التصويتية المارونية.
الأقليات ترجح في الدائرتين ولكنها لا تحسم المعركة في حال نجح المترشحون الأوائل في استقطاب نسبة عالية من الغالبيتين: السنة في بيروت والموارنة في المتن.
المعركة إذا معركة من يفوز بنسبة عالية في الغالبية التي يمثلها. وبهذا المعنى فان الأكثرية في الدائرتين لاتزال تملك قرار الحسم في هذا الاتجاه أو ذاك. وتحت هذا السقف يمكن قراءة الإشارات السياسية المتوقع ظهورها بعد إعلان نتيجة التصويت. مثلا إذا أعلن فوز مترشح «المستقبل» فمعنى ذلك أن تيار الحريري لايزال الأقوى في الشارع السني والعكس يدل على نمو مراكز قوى منافسة في الطائفة تستفيد من التحالفات الأخرى لكسب المقعد. ومثلا إذا أعلن فوز أمين الجميل في المتن فمعنى ذلك أنّ تيار القوى اللبنانية (14 آذار) أعادت تركيز وضعها السياسي وجددت ثقلها التقليدي في الشارع الماروني والعكس يدل على نمو مراكز قوى منافسة في الطائفة تستفيد من التحالفات الأخرى لكسب المقعد. وبغض النظر عن النتيجة فان مقعد بيروت الثانية سيكون للسنة بينما مقعد المتن سيكون للموارنة. والنتيجة في النهاية لن تقدم أو تؤخر في معادلة القوة في المجلس النيابي في اعتبار أن البرلمان مقفل الآن وجلساته معطلة ولان ميزان القوى لن يتغير لكون النائب الزائد أو الناقص لا يرجح كفة هذه الكتلة أو تلك.
المعركة إذا رمزية في مجالها التمثيلي وقوتها السياسية أنها تعطي فكرة عن مزاج شارع متقلب بين شعارات اعتمدت التخويف لحشد القوى وتجييش الأنصار.
المتن نموذجا
المعركتان في المتن وبيروت تتشابهان في آليات التصويت من حيث الغالبية من جهة والأقليات من جهة أخرى. إلا أن عناوين المواجهة تختلف في اعتبار أن الطابع المحلي/ العائلي يلعب دوره في التأثير على توازنات بيروت بينما الطابع المذهبي/ السياسي اخذ موقعه في إدارة التوازنات في المتن. ودائرة المتن في هذا السياق المتوتر تمثل الآن الوجهة العامة التي يمكن أن تؤشر لحركة سير القوى وتحالفاتها الإقليمية. فالمعركة في المتن تخطت كل الحواجز وطرحت بوضوح نقاط الاختلاف المفصلية بين «8 آذار» و»14 آذار». التيار الذي يمثله الجنرال ميشال عون اعتمد سياسة التحريض الأهلي ضد المسلمين وتبنى عنوان مقاومة «تهميش المسيحيين». إلا أن الشعار لا قيمة له في دائرة مسيحية في اعتبار أن عون يخوض معركة ضد مرجعية مارونية تحت عنوان رفض سياسة «تهميش المسيحيين». والتيار الذي يمثله الرئيس أمين الجميل اعتمد سياسة التخويف من عودة السوريين وتبنى عنوان حماية الدولة وتحصين السيادة والاستقلال من طغيان «ريف دمشق» في منطقة تعتبر تقليديا ضد النفوذ السوري.
معركة المتن الشمالي واضحة في شعاراتها السياسية واتجاهاتها العامة. فهناك فريق يغلب التعارض الأهلي (ضد المسلمين) على التحالفات الإقليمية مقابل فريق يغلب التحالفات الإقليمية (ضد النظام السوري) على التعارض الأهلي. وهذا التغليب له معنى في توضيح صيغة الكيان اللبناني ومستقبله السياسي وموقع الدولة ودورها في ضبط التوازنات. فالطرف الذي يعطي أولوية لفكرة «تهميش المسيحيين» يرفع موضوع الطائفية (حصص الطائفة) إلى رأس جدول أعماله مغلبا إياه على فكرة الدولة. والطرف الذي يعطي أولوية لموضوع «ريف دمشق» يرفع فكرة الدولة إلى رأس جدول أعماله مغلبا إياها على نظام الحصص والملل والنحل.
عون يفتعل مشكلة داخلية مع المسلمين تحت شعار استعادة المواقع المسيحية واسترداد صلاحيات الرئاسة المسيحية. الجميل يعتبر أن المشكلة الآن تنحصر في الخوف من احتمال عودة النظام السوري إلى لبنان واستكمال سياسة تهميش موقع المسيحيين ودورهم التقليدي في بلاد الأرز.
هذه العناوين السياسية (المحلية والإقليمية) أعطت حيوية لمعركة المتن الشمالي وجعلت كل المراقبين الإقليميين والدوليين يتابعونها لرصد اتجاهات الرأي العام ومزاج الشارع اللبناني. ولكن السياسة في لبنان تختلف موضعيا عن سيكولوجية الطوائف وأمزجتها. فإذا فاز الجميل بالمقعد الماروني لا يعنى أن لبنان انقطع عن محيطه الإقليمي. وأيضا إذا فاز مترشح عون بالمقعد الماروني لا يعني أن الموارنة أصبحوا مع «ريف دمشق».
الطوائف في لبنان لا تنتخب على أساس السياسة وإنما تلعب مجموعة عوامل محلية وضيقة في تحديد خياراتها. فالمتن منطقة مارونية في غالبيتها وتحتوي أيضا مجموعات مسيحية (أرثوذكسية وارمنية) تقدر كتلتها أكثر من 16 ألف صوت. وهذه الكمية من الأصوات تلعب دورها في ترجيح هذا الماروني ضد ذاك. الموارنة هم الأكثرية ولكن الطرف الفائز في كسب أصواتها لا يعني انه سيفوز بالمقعد في حال فشل في كسب أصوات الطوائف الأخرى. والطوائف الأخرى لا تقرر مصير المقعد الماروني في حال لم ينجح المنافس في كسب نسبة لا بأس بها من أصوات الموارنة.
العملية إذا مقعدة وتتجاوز ميدانيا كل تلك العناوين التي تراوحت بين «تهميش المسيحيين» و»ريف دمشق». فعلى الأرض هناك معادلة طائفية لا علاقة لها بالشعارات العامة على رغم أن العناوين تؤثر في توتير الأجواء وتزيد من الانفعالات والاستقطابات.
حتى الآن يبدو أن الجميّل استرد موقعه في الطائفة المارونية وظهر على الشاشة بأنه القوة الأولى في المتن. إلا أن احتمالات فشله واردة في حال لم يخترق نسبيا أصوات الأرمن و والأرثوذكس أو إذا لم يكسب نسبة لا تقل عن 80 في المئة من أصوات الموارنة. كذلك يبدو مترشح عون الماروني هو الأقوى في كسب أصوات الأرمن والأرثوذكس ولكن احتمالات سقوطه واردة إذا لم يستقطب نسبة 20 في المئة من أصوات الموارنة. وفي النتيجتين سيكون الجميّل هو الفائز سياسيا بغض النظر عن احتمالات الفشل والنجاح. فالمقعد تقليديا للموارنة فإذا فاز ماروني به بأصوات الأرثوذكس والأرمن فمعنى ذلك أن عون ليس قويا في طائفة مركزية من طوائف لبنان الثلاث. أما إذا فاز الجميّل فمعنى ذلك أن عون أصبح في موقع الضعيف مسيحيا في اعتبار انه خسر التأييد الماروني ولم ينجح في توظيف أصوات الأرثوذكس والأرمن.
هناك فارق إذا بين فوز وآخر في اعتبار أن المقعد من حصة الموارنة. فمن يكسب الموارنة يربح سياسيا حتى لو خسر المقعد؟ ومَنْ يربح المقعد على حساب الموارنة يكون خسر سياسيا وكسب الأرمن؟ ولهذه الاعتبارات المحلية والميدانية يرى الجميل انه فاز سياسيا على رغم أن استطلاعات الرأي رشحت منافسه بغالبية 56 في المئة ضد 44 في المئة.
الأمر نفسه يمكن سحبه على الدائرة الثانية في بيروت على رغم أن التنافس فيها انضبط تحت درجة معقولة من التوتر. ولكن النتيجة متشابهة في دلالاتها الرمزية. فهناك أيضا من يكسب السنة يربح سياسيا حتى لو خسر المقعد؟
صباح اليوم تبدأ معركة التصويت في دائرتين نيابيتين فرعيتين والنتائج لن ترجح كفة على أخرى بقدر ما ستعلب دورها في إعطاء إشارات سياسية لمزاج الشارع اللبناني وهل يغلب الطائفة على الدولة أم الدولة على الطائفة؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1794 - السبت 04 أغسطس 2007م الموافق 20 رجب 1428هـ