العدد 1793 - الجمعة 03 أغسطس 2007م الموافق 19 رجب 1428هـ

وجهان للناصرية

فوزية مطر comments [at] alwasatnews.com

اكتسب عبدالناصر والمرحلة الناصرية مقاما عظيما على المستوى العربي ومكانة كبيرة على المستوى العالمي. اتخذ عبدالناصر سياسات تحررية ضد المستعمر ورفض قيود القوى الاستعمارية وشروطها، المهيمنة على المصائر الاقتصادية والسياسية التي كانت تنوء تحت وطأتها شعوب العالم الثالث، ونفذ سياسات التأميم. وقاومت بلاده العدوان الاستعماري المشترك العام 1956. كل ذلك عزز المد القومي العربي وجمع قلوب العرب حول هذا القائد الكبير الذي لم تجد الأمة - في العصر الحديث - مثله قائدا موحدا للشارع العربي ملهما لتطلعاته ولطموحاته.

أما على الصعيد الداخلي، فقد تنازعت الواقع المصري صورتان لعبدالناصر، إحداهما الصورة المضيئة ذاتها التي شعّت عربيا. والأخرى كانت تلك الصورة الغامضة التي ظلت معتمة تثير الأسئلة وتبحث عن إجابات طوال حياة الرجل. وأحسب أن إجابات شافية عنها لم تتبدَ وتتضح معالمها وبشكل متدرج إلا بعد هزيمة يونيو/ حزيران 1967، ثم بعد وفاة عبدالناصر. تلك هي صورة الحقبة الناصرية في جانبها البغيض الملطخ بدماء من قضوا موتا أو من ذاقوا صنوف العذاب من المعارضين في سجون عبدالناصر. نقول ذلك والقلب - حقيقة - يرفض قبول أن يُمس اسم قائد الأمة العربية الذي أحببنا وتمثلنا نموذجا أودعناه أحلامنا وتطلعاتنا، إلا أن الوقائع تبقى وقائعَ والحقائق تبقى حقائقَ. كان لعبدالناصر والناصرية وجهان، خارجي يشع بضوء الاعتزاز والفخر وداخلي ينطفئ بسياسات القمع والظلم والحكم الفردي.

الكثير إن لم نقل معظم من عاش صباه فترة الستينات العربية والبحرينية الماضية شكلت الناصرية أس وعيه السياسي والقومي وألهبت حماسه الوطني وكانت خطه ونبراسه. مستلهمة طروحات وفكر عبدالناصر والناصرية، خاضت الجماهير العربية نضالاتها ضد المستعمر وقاومت مظاهر الظلم وغياب العدل في أوطانها. تفاعل الشارع العربي مع مصر التي أصبحت في عهد عبدالناصر قلب الأمة ومركزها النابض بالعز والكرامة. أصبح الإنسان العربي يزن الرؤية الصحيحة والموقف العربي السليم من كل القضايا الساخنة بميزان الموقف المصري الناصري. غدا عبدالناصر البطل القومي الملهم للأمة، وبات ما يقوله هو القول الفصل الثابت ثبات المسمار في اللوح. ملأت صوره القلوب قبل الجدران، أحبه الصغار قبل الكبار، استمع لخطبه الأمي قبل المتعلم، وغار منه وخاف من تأثيره، بل وكرهه كثير من الحكام العرب قبل غيرهم من المستعمرين.

كنا من جيل تزامن صباه مع مرحلة تصاعد المد الناصري خلال الستينات الماضية، وشهدنا مكانة عبدالناصر والناصرية في قلوب، وبيوت المحرق نموذج لكل بقعة بحرينية وعربية تحتفي بعبدالناصر وتحبه. وبتلقائية الصبا في محاكاته لاهتمامات الكبار شد عبدالناصر انتباهنا واستحوذ على اهتمامنا. بل قبل ذلك، فلا يُمحى من ذاكرتي لليوم سؤال وجهته إلي ابنة عمي ونحن في المدرسة الابتدائية: هل استمعت البارحة لجمال عبدالناصر؟ وكان ردي بحماس: طبعا استمعت إليه. كيف لا وكنا نشهد ولع الكبار به وبسياسته وبطروحاته منذ طفولتنا.

وفي مرحلة الصبا حاكينا الوالد الذي درج على اتباع طقوس احتفائية استعدادا لسماع خطب عبدالناصر. فمنذ العصر يستبدل بطاريات مذياعه بأخرى جديدة ويطلب العشاء مبكرا عن وقته المعتاد ويستوي في جِلسة قرب طاولة المذياع بحيث يكون وضع الجهاز موازيا لأذنه. تبدأ «صوت العرب» في تهيئة المستمعين للخطبة بأغاني عبدالحليم وأم كلثوم الوطنية المؤثرة التي كانت تصدح في المكان حماسية رائعة غدونا لفرط تَكرارها نحفظها عن ظهر قلب ونرددها مع المغنين. وما إن يبدأ عبدالناصر بقوله: «أيها المواطنون» حتى يحرك الوالد كفه لنا بإشارة الآمر بالصمت والهدوء. يسود المكان جو من السكون يسمح بوصول كل كلمة عهد أو همسة وعد أو طرفة تحدٍّ ينطق بها عبدالناصر. نبتسم حين يبتسم الوالد ونرسم الجد على وجوهنا حينما نراه يرتسم على وجهه، وترف قلوبنا حين يعلو التصفيق لحظات التوقف أثناء الخطاب، فيردد الوالد: «الله ينصرك على من يعاديك».

كانت صور عبدالناصر تطل علينا من كل جهة، حفظنا وجهه جادا أو مبتسما أو صارما، رأينا في قيادته الأمل الوحيد في الغد السعيد. وفي كل ذلك لعبت دورا حاسما الآلة الإعلامية الهائلة التي وظفتها مصر عبدالناصر للتغلغل في كل بيت عربي وكل قلب عربي. أذكر أني - ربما في النصف الأول من الستينات - قرأت في إحدى المجلات الناصرية التي ترد البيت منتظمة أسبوعيا عنوانا للكتابة إلى عبدالناصر. كتبت رسالة إعجاب ومحبة وتقدير للقائد الكبير باسمي وأخرى باسم أخي الذي يصغرني، وتضمنت الرسالتان طلبا بموافاتنا بخطب عبدالناصر وكتبه. وكم كانت سعادتنا لا توصف حينما تسلمنا طردا قادما من مصر يحوي ردا على رسالتينا مرفقا بكتاب «في سبيل الحرية» لجمال عبدالناصر وعدد من خطبه مما مازلنا نحتفظ به لليوم.

حل يونيو 1967 وهُزم العرب بقيادة عبدالناصر فكان حزننا فاجعا ولكننا رفضنا الهزيمة وخرجت مظاهرات ومسيرات هادرة في شوارع البحرين. أعلن عبدالناصر تنحيه عن الرئاسة، فرفضنا أيضا وتمسكنا بقيادته ودعمناه لتجاوز الهزيمة. ولكن تداعيات الهزيمة كانت هائلة وولّدت ضجيج الأسئلة في قلوبنا وفي عقولنا، ولازمتنا الأسئلة وساهمت في هز ثقتنا تدريجيا بالنظام الناصري. تكشفت جوانب لم تكن في حسبان الجماهير العربية الهادرة باسم عبدالناصر والناصرية، الخيانة في الجيش المصري، التفرد بالسلطة، الفساد في أجهزة الدولة، ونظام القمع البوليسي الذي كان يحصي أنفاس المصريين ويزج في السجون بكل صوت يجرؤ على المعارضة أو يخالف الامتثال للخط الناصري. كلها عواملُ أخذت تهز التعاطف والانقياد إلى التجربة الناصرية.

ولكن جيل الستينات - وعلى رغم ما جرى - ظل يمجّد عبدالناصر ويراه - ولايزال - الزعيم العربي الوحيد الذي استطاع في العصر الحديث أن يجمع العرب على كلمة واحدة. ظلت مكانة عبدالناصر راسخة في القلوب على رغم ما كان يتوارد إلى الآذان والأعين من دلائل القمع الناصري لكل صوت معارض في الداخل المصري. ظل المرء بداية ينكر قمع النظام الناصري ضد أي تحرك لمعارضيه، ثم أخذنا ننكر معرفة عبدالناصر الشخصية بما يجري من قمع في الشارع المصري أو تعذيب وحشي وتنكيل بالمعارضين المودعين في المعتقلات. توفي عبدالناصر وخلّف جرحا عميقا في القلب بقي ينزف على فقده سنين طويلة، وظل المرء يواصل طرد أية فكرة تبلورت في ذهنه عن سوءات العهد الناصري داخل مصر.

ومع اتساع خبرات المرء ومروره بتجارب الحياة وتنوع قراءاته واطلاعاته وما أفرزه ذلك من تغير في مساراته الفكرية والسياسية، كان لابد أن تتغير النظرة إلى العهد الناصري وتحليل طبيعته وأهدافه. أصبحت واضحة وضوح الشمس الكيفية الفردية بما تحمله من سمات الحكم الدكتاتوري التي أدار بها عبدالناصر نظام دولته. حُكِمت مصر بيد من حديد وأحصت مخابرات أمن الدولة أنفاس الشارع المصري وعاثت مراكز القوى في مصر تحكما وفسادا. اتضح الجانب المظلم في الداخل الذي كان يتوارى خلف الصورة البراقة في الخارج.

كان الشيوعيون والإخوان المسلمون على رأس من نكّل بهم النظام الناصري بمراقبتهم وبملاحقتهم المتواصلة وبزجهم في المعتقلات وبإذاقتهم أقسى صنوف التعذيب وامتهان كرامتهم وإنسانيتهم في أكثر ظروف الاعتقال إجحافا وأسوئها أمكنة. فمن معتقلات الواحات في عمق الصحراء المقطوعة عن كل حياة، إلى سجون العاصمة والمدن الأخرى على اختلاف أنواعها، إلى المحاكمات الصورية، إلى تصفية كثير من القادة الشيوعيين والإخوان المسلمين.

هل كان عبدالناصر على علم بما يجري من تكميم للأفواه في الشارع المصري ومن فظائع التعذيب والقتل في المعتقلات؟ تؤكد عشرات المؤلفات التي تؤرخ للمرحلة بما تورده من تفاصيل موثقة أن عبدالناصر كان على علم تام بكل ما يجري في معتقلاته إن لم يكن لآلاف المعتقلين السياسيين فللعشرات أو المئات من قادة الصفين الأول والثاني منهم، (انظر على سبيل المثال لا الحصر: «مجرد ذكريات» الجزء الأول لرفعت السعيد، و «سراديب الشيطان في سجون عبدالناصر» لأحمد رائف، و«عشت هول المذبحة... أقسمت أن أروي» لشاهد عيان من سجن ليمان طره شهد مذبحة صُفي فيها واحد وعشرون من الإخوان المسلمين في العام 1957).

جلب النظام الناصري ضمن ما جلبه من دول المعسكر الاشتراكي الشمولية أسوأ أساليب تكميم الأفواه وإحكام القبضة البوليسية على رقاب الناس وملاحقة المعارضين والتنكيل بهم. ومن بعده اقتفت بعض الأنظمة الجمهورية العربية أثر التجربة الناصرية ونكّلت بشعوبها. ولكن عبدالناصر يبقى القائد العربي العظيم في أفئدة العرب، وتبقى التجربة الناصرية تحمل وجهي العملة المتناقضين.

إقرأ أيضا لـ "فوزية مطر"

العدد 1793 - الجمعة 03 أغسطس 2007م الموافق 19 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً