العدد 1793 - الجمعة 03 أغسطس 2007م الموافق 19 رجب 1428هـ

لبنان الطائفي في معركة انتخابية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

غدا تفتح صناديق الاقتراع لفرز أصوات الانتخابات اللبنانية الفرعية في دائرتي المتن الشمالي (مقعد ماروني) وبيروت الثانية (مقعد سني). وليلا ستُعرفُ نتيجة التصويت وهي ستكون مهمة في إشاراتها السياسية بغض النظرعن الطرف الذي سيفوزبها. فالمعركة سياسية قبل أن تكون نيابية وهي تقع بين تيارين يتجاذبان الساحة اللبنانية في اتجاهات متعاكسة. وقبل أن تعلن النتائج اكتسحت المساحات اللبنانية لغة عنيفة كشفت عن وجود هواجس ومخاوف أكثر من المتوقع خصوصا في منطقة المتن الشمالي المسيحية.

اللغة أحيانا ترمز إلى فكرة وهي تكثف الكثير من مشاعر الغضب أو القلق. وهذا الأمر ظهر بوضوح في تفصيلات الاشتباكات السياسية التي اندلعت في منطقة المتن بين فريق «8 آذار» الممثل بالمترشّح عن تيار الجنرال ميشال عون، وفريق «14 آذار» الممثل بالمترشّح الرئيس السابق أمين الجميّل.

مقابل هذا الشحن السياسي الذي ظهر على شاشة المتن كان الانفعال في دائرة بيروت الثانية يسير على درجة مقبولة من التوتر. فأهل بيروت تعاملوا بهدوء مع الاستحقاق النيابي حين أعلن التحالف الثنائي (حركة أمل وحزب الله) مقاطعته للانتخابات. فإعلان المقاطعة خفف من نسبة القلق الطائفي والمذهبي ووضع مسألة التنافس في سياقها الطبيعي من دون أن يعني الأمر أن السياسة غابت عن الدائرة بدليل وجود أكثر من تسعة مترشحين على المقعد.

معركة المتن اختلفت في هذا المضمار؛ لأنّها فتحت الباب أمام تنافس تجاوز حدود المنطق السياسي ودفع مختلف الاتجاهات نحو تصعيد استخدم اللغة سلاحا في التراشق الكلامي. لغة معركة المتن الشمالي كانت عنيفة وأدّت إلى نوع من الانحراف عن الموضوعية وخصوصا من جانب الجنرال. فالجنرال ضابط مدفعية في الجيش اللبناني. وبحكم وظيفته السابقة استخدم اللغة واسطة للقصف العشوائي من دون اعتبار للتداعيات والحساسيات. حتى أن الجنرال لم يكترث إلى خصوصية تحالفات عَقدَها مع أحزاب وفئات ترفض الطائفية والمذهبية من حيث المبدأ حتى لو اعترفت بها من ناحية التعامل الواقعي (السوسيولوجي) معها.

لغة الجنرال كانت طائفية ومذهبية وشديدة التعصب إلى درجة أنها أحرجت الكثير من أنصاره ومؤيديه في الطرف الإسلامي. كذلك كانت لغته تعصبية ضد المسيحيين حين استخدم مفردات ومصطلحات اتهامية وغير مقبولة من جانب الطرف المسيحي المنافس له على المقعد.فاللغة كانت مزدوجة في تخوين كلّ اللبنانيين من مسلمينَ ومسيحيينَ. فهو من جانب ضد المسلمينَ وتحديدا أهل السنة إذ استخدم كلمات تحريضية لا وظيفة لها سوى تقويض صيغة العيش المشترك المهزوزة أصلا. كذلك استخدم لغة مشابهة ضد الفريق المسيحي المنافس له حين اتّهمه بخيانة «حقوق المسيحيين».

لغة الجنرال المزدوجة في الاتهام والتخوين حاولت اللعب في نار التعارضات اللبنانية. فهو ادعى أنه الممثل الشّرعي والوحيد للطرف المسيحي وهو القادر على استعادة حقوقه من المسلمينَ وهو أيضا اتّهم الجانب المسلم (وتحديدا السنة) بأنه مسئولٌ عن مصادرة تلك الحقوق.

هذا خطاب مخيف ويؤسس لفتنة أهلية كبرى. فالجنرال حين يتهم أهم وأعرق مرجعيات مسيحية بخيانة المسيحيين وإهدار حقوقهم ويتعامل مع تلك القوى بكلام غير مسئول، فكيف سيكون أمرُه وحالُه مع المسلمينَ، وهم الطرف المتهم بسرقة صلاحيات المسيحيين وحقوقهم؟

لغة الجنرال تلعب باتجاه فتنه طائفية مذهبية تتوسل السياسة لتحقيق هدف لا معنى له في حال انهار ما تبقى من الكيان اللبناني. فالقصف المدفعي الذي استخدمه الجنرال في معركة مدنية عادية عزز تلك المخاوف من صعود رجل عسكري إلى موقع الرئاسة. وهذا النوع من الكلام الذي يخوّنُ أهلَه لمصالح ذاتية ويتهمُ شركاءَ الوطن بسرقة الحقوق يرسل إشارات سلبية تحرج حتى الطرف المسلِم المتحالف معه سواء على مستوى توقيع ورقة ثنائية أو على مستوى مظلة «8 آذار». الفتنة في النهاية فتنة ومَنْ لا يتردد في استخدام القذائف الطائفية والمذهبية والتخوينية والاتهامية ضد خصومه في الشارعين المسيحي والمسلم لا يستبعد أن يستخدم القذائف من العيار ذاته ضد المتحالفينَ معه وأنصاره في حال اختلف معهم في يوم ما، على وجهات نظر أخرى.

شعوب لبنانية

معركة المتن الشمالي كانت سيئة في لغتها المتشنجة وكشفت عن مدى هزال الفكرة اللبنانية في بلد يعتمد نظام الملل والنحل لإنتاج قياداته السياسية. ففي فترة قصيرة ظهرت مصطلحات غريبة من نوعها بدءا بمقولة «حقوق المسيحيين» أو «أمن المسيحيين» وانتهاء بمقولات «الشعب المسيحي» و«الشعب المتني» وغيرها من عبارات لا تعبّر عن مشاعر منفعلة بقدر ماتعكس ذهنية قلقة تصطدم بواقع لبناني معقد في تركيباته السوسيولوجية وما تنتجه من تداعيات تتحكّم بقوانينها سيكولوجية الطوائف والمذاهب. فالذهنية المذكورة كشفت في وعيها الباطني (اللاوعي) عن قناعات تشير إلى عدم وجود شعب لبناني وإنما شعوب لبنانية موزّعة على الطوائف والمذاهب والمناطق والأكثريات والأقليات. فكلّ قضاء تحوّل إلى شعب خاص ومستقل. وتحت سقف القضاء هناك شعوب صغيرة (أقليات مذهبية). وتحت التحت ستظهر مجموعات أخرى (عشائر وقبائل وعائلات) ناقصة الحقوق أو خائفة على وجودها أو أمنها.

لا شك في أن الجنرال يتحمّل مسئولية إثارة هذه النعرات الطائفية والمذهبية. فهو أوّل مَنْ بادر إلى إطلاق تلك القذائف العشوائية تحت غطاء حماية أو استرداد «حقوق المسيحيين» متهما طائفة بعينها بالوقوف وراء سرقة تلك «الصّلاحيات». وأدّى هذا القصف العشوائي إلى تسجيل إصابات مباشرة ليس ضد الطائفة الأخرى (أهل السنة) المتهمَة بالمصادرة وإنما ضد تحالفاته التي ليس لها مصلحة في الانجرار نحو فتنة مذهبية، وأيضا ضد المسيحيين والمجموعات المسيحية المنافسة سياسيا لزعامته. فالمتضرر من هذه اللغة الحامية كان الجانب المسيحي في الدرجة الأولى وهذا ما أدّى إلى استنفار العصبيات المضادة، وأطلق حملة مارونية (شعبية) مخالفة لخطاب الجنرال التخويني والتعبوي.

سيكولوجية الطوائف لعبت دورها مجددا في تجييش الشارع وتجنيد الأنصار. فالرئيس الجميّل الذي اتهمه الجنرال بخيانة «حقوق المسيحيين» نجح في إعادة إنتاج خطاب سياسي لمصلحة الموارنة في القضاء المتني. فالقضاء يتشكّل تقليديا من غالبية مارونية والمقعد مخصص للموارنة ، والمكان شغر لأنّ هناك آلة إجرامية وجهت لابن الرئيس رصاصات قاتلة. وهذا بالضبط ما شكّل جوهر الموقف الإنساني والأخلاقي الذي أظهرته مواعظ وخطب البطريركية المارونية. وهذا ما حاولت بكركي قوله وإفهامه للجنرال. ولكن ضابط المدفعية السابق لم يسمع بسبب انشغاله بالقصف العشوائي على خصومه في المتن ولبنان كلّه.

مثل هذا القصف غير المدروس شدّ الانتباه نحو الاتجاه المعاكس. فالإنشداد الماروني في دائرته المسيحية المتنية أعطى فرصة للرئيس الجميّل بالتقدّم في هذا الإطار. والتقدّم على صعيد كسب الصوت الماروني يعني أن الغالبية المارونية ستلعب دورها هذه المرة في ترجيح كفة على أخرى بغض النظر عن كثافة التصويت ونسبته في القوتين المتنافستين. فالأرمن والأرثوذكس تراجع دورهما في هذه المعركة التي صعّد الجنرال من وتيرتها السياسية حين تعمّد الضرب على الأوتار المذهبية والطائفية من دون انتباه لمصالح القوى الأخرى سواء على المستوى المسيحي أو المسلم. فالجنرال بقصفه الكلامي زاد من درجة التوتر المذهبي وتحوّل إلى مشروع مشكلة بدلا من مشروع حل.

مساء غدٍ ستفتح صناديق الاقتراع في الدائرتين وستعرف ليلا النتائج. وهي بغض النظر عن كل التوقعات ستعطي فكرة مختصرة عن نموذجين يتنافسان على ساحة ضيّقة ولكنها أصبحت مفتوحة ومكشوفة على احتمالات إقليمية ودولية واسعة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1793 - الجمعة 03 أغسطس 2007م الموافق 19 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً