العدد 1792 - الخميس 02 أغسطس 2007م الموافق 18 رجب 1428هـ

الكِنْدي بين التكلم والتفلسف

طلائع الفلسفة العربية/ الإسلامية (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل يمكن تحديد نقطة زمنية لنشوء الفلسفة العربية/ الإسلامية ونبدأ منها للجزم بوجود محطة فكرية قبل الفلسفة ومحطة أخرى بعد الفلسفة؟ المسألة صعبة باعتبار أن منطق التفلسف لا يرتبط عادة بمنظومة متكاملة أو منهجية مترابطة. فالتفلسف يمكن أن نجده في الشعر والحِكَم والديانات الوثنية وأسلوب الحياة وغيرها من قطاعات تتصل بوظائف عملية يحتاج إليها الإنسان في معاشه وحاجاته اليومية.

هذا جانب بدائي من الفلسفة. ولكن الفلسفة في معناها المدرسي واستقلالها الشامل عن التأثيرات الجوارية والبيئات الثقافية وما تشكله من منظومات تتبع مجموعة أصول وقواعد فهي مسألة أخرى اختلف المؤرخون على تحديد بداياتها الأولى في التاريخ الإسلامي. فهناك من يربط الفلسفة بالاتجاهات السياسية التي ظهرت في صدر الإسلام. وهناك من يربطها بالمعارضة «الايديولوجية» التي طرحت في مواجهة السلطة مجموعة مفاهيم أخلاقية تنتقد رموز الدولة انطلاقا من مسلكيات اجتماعية. وهناك من يربط بدايات الفلسفة بظهور الفتاوى التي تعتمد التأويل لاستنباط أو استقراء الاجتهادات. وهناك من يربط الفلسفة الإسلامية بظهور المتكلمة (المعتزلة) وتطور علم الكلام وتشعبه. وهناك من يربطها بالفقه ومدارسه التي تناولت حاجات الإنسان في مختلف جوانبها. وهناك جانب من المؤرخين يرى في الفلسفة الإسلامية تلك الامتدادات المتصلة مباشرة بالدعوة وما تفرع عنها من تشريعات وتنظيمات أطلق عليها علوم القرآن.

إلى هؤلاء هناك تيار من المؤرخين يعزل الفلسفة عن الإسلام والقرآن ويرى أن منظومة التفلسف بدأت في فترة النقل والتعريب والترجمة ولا وجود لنظام فلسفي إسلامي قبل الكِندي والرازي أو قبل الفارابي وابن سينا.

هذه النظرية رد عليها بعض المستشرقين الذي رأى أن الفلسفة الإسلامية لم تعرف الاستقلال النظري عن المنظومات المنقولة عن اليونان والفرس والهند إلا بعد الإمام الغزالي. ويربط هذا البعض نشوء الفلسفة الإسلامية المستقلة بتلك الردود والملاحظات التي صاغها الإمام الغزالي في كتابيه «مقاصد الفلاسفة» و «تهافت الفلاسفة». فالسجال الذي أحدثه الغزالي ضد الفارابي وابن سينا والنقاش الذي أثاره بشأن «تهافتها» شكل لاحقا منظومة فلسفية مستقلة أسست قراءات منهجية ونقدية للفكر الإغريقي.

مسألة التوقيت إذا ترتبط أساسا بالمنهج العام الذي ينطلق منه المؤرخ. وبسبب الاختلاف في الرؤية العامة تشكلت قراءات زمنية لتحديد موعدٍ لنشوء الفلسفة الإسلامية. وهذا ما جعل الكثير من المستشرقين والمؤرخين يعملون على البحث عن تعريفات مستقلة للفلسفة الإسلامية بهدف فك ارتباطها التاريخي عن حركة النقل والترجمة والتعريب. وهناك من يجزم بأن الفلسفة الإسلامية الحقيقية هي الفقه ومدارس علم الكلام وكل ما تفرع عنها من اجتهادات وقراءات بينما كل ما يقال عن فلاسفة خارج هذه الدائرة وتلك السياقات الفقهية فهو مجرد كلام منقول عن الإغريق.

حتى الآن لم تحسم المسألة ولايزال النقاش يدور حول توقيت المحطة التاريخية وتعيين النقطة الزمنية التي تفصل بين مرحلتين. إلا أن السجال العام بدأ يتجه نحو فصل الفلسفة الإسلامية (الفقه وعلم الكلام) عن حركة النقل والترجمة التي ساهمت في تأسيس فلسفة منحولة اعتمدت التعريب واسطة للبحث في منظومات معرفية تهيكلت حدودها وتعريفاتها في بيئات عمرانية وتاريخية مختلفة عن الإسلام ومنابته ومصادره.

عملية الفصل هذه فتحت الآفاق للبحث وإعادة القراءة في سياق منهجية سياسية تربط الفكر بالسلطة وطبيعة توجهاتها. فالفلسفة في النهاية ليست نظريات مجردة عن حركة الواقع بقدر ما هي تجريد للواقع ودور التجريد (النظرية) في تحريك العمران وإعادة ترتيبه ليتناسب مع منظومة تطمح إلى تصنيع المعرفة وتجسيدها بالإنسان.

سقراط مثلا لم يبدأ من فراغ فهناك من سبقه. كذلك أفلاطون الذي تخيل جمهوريته فكان فكره نتاج بيئة عمرانية أسست ثقافة ساهمت في تشكيل تصورات عن مدينة المستقبل. فالصورة (تصورات أفلاطون) هي نتاج المادة. والمثال (الصورة) لعب دوره في إعادة تشكيل هيكلية تراتبية للمعرفة الإنسانية. وأيضا أرسطو لم يكن بعيدا عن السلطة وتأثيره الخاص والمباشر في رسم سياساتها وطموحاتها وتصوراتها.

الفلسفة في التطبيق سياسة. والسياسة في التجريد فلسفة. وهذا الفضاء المشترك بين الفلسفة والسياسة تمثل ميدانيا في شواهدَ زمنية إسلامية مختلفة أبرزها كانت تلك المحطة العباسية في عهدها الأول وتحديدا بعد بناء المركز (مدينة بغداد) واستقرار الدولة في محيط جواري (جغرافي) يرفد العاصمة بأجواء من القلق والتوتر. وساهمت هذه الأجواء المحكومة بالاستقطابات والتجاذبات في توليد بيئة ثقافية منشطرة بين فئات قابلة لاستقبال الوافد وفئات مستعدة للدفاع عن الهوية والمخاطر التي تهددها.

الكِنْدي ومحيطه

الكندي ليس بعيدا في حياته السياسية ومنظومته الفلسفية (المنقولة والمبتكرة) عن تلك الفضاءات التي أنتجت آليات معرفة إلى جانب معسكرات تتصارع على مصادرة الحقيقة. فهذا الفيلسوف «الأول» تشكلت منظوماته الفكرية من روافدَ مختلفة تراكمت زمنيا وتجمعت من مصادرَ متنوعة ومنابتَ متشعبة. ولعل هذا التجميع شجع صاعد الأندلسي على توجيه سهام النقد لفلسفته متهما إياه بالضعف والخلو «من صناعة التحليل» وانتفاء الفائدة منه في «صناعة التركيب».

نزع صاعد عن الكِنْدي صفة «التحليل» وإسقاط قدرته على «التركيب» دفعه إلى تأخير توقيت نهوض الفلسفة الإسلامية إلى زمن الفارابي. ولكن الكِنْدي لعب وظيفة أخرى أهملها صاعد، وهي دوره المميز في تحديد تعريفات عربية للفلسفة الإغريقية وتشكيل مفاهيم واضحة للمفردات والمصطلحات اعتمدها بعده الكثير من المشتغلين في هذا الحقل المعرفي. ومثل هذه الوظيفة لا يمكن إنكارها أو إسقاطها من معادلة التطور وما أنتجته من توازنات لعبت السلطة في العهد العباسي الأول دورها في رسم حدودها الثقافية دفاعا عن مصالحَ سياسية.

الكِنْدي آنذاك لم يكن على هامش المعادلة السياسية وإنما كان نتاج حركة ثقافية تشعبت مدارسها وتنوعت وارتسمت على ضفافها مراكزُ قوى دخلت في صراعات فكرية عنيفة ضد بعضها. وهذا الفيلسوف ليس بريئا. فهو كان في تلك الفترة قاعدة من قواعد التجاذب السياسي/ المعرفي بين حركة المعتزلة والسلطة من جهة ومجموعات القضاة والعلماء والفقهاء من جهة أخرى. وبسبب منظومته الفكرية الخاصة نجح الكِنْدي في نسج موقع مستقل عن المعتزلة من دون أن يبتعد عنهم أو يتعارض معهم. وشكل هذا التعايش بين الكِنْدي والمعتزلة في ديوان الخلافة نقطة قوة ساعدت «الفليسوف الأول» على احتلال موقع المشرف اللُغوي (المصحح والمدقق) على نتاجات الترجمة والنقل عن الإغريق والفرس والهند.

الكِنْدي ليس مترجما ولا يعرف لغات أجنبية وليس مطلعا على اللسانيات اليونانية أو السريانية أو الفارسية أو الهندية. ولكنه كان لُغويا يملك من البراعة العربية وما تعنيه من ثروة في المفردات؛ ما جعله قادرا على اشتقاق المصطلحات وتعريبها ومقارنتها بهدف تأصيلها وتقعيدها.

هذا الدور الخاص أعطى فرصة للكِنْدي للاطلاع والمتابعة والملاحقة والتدقيق والمراجعة والمقارنة من خلال وظيفة الإشراف على حركة النقل والترجمة. ومثل هذا الموقع المشرف على عمل الموظفين والمترجمين سهّل على الكِنْدي إمكانات الوصول إلى ما يريده بسبب اتصاله المباشر بالعاملين في هذا القطاع. فهو يستطيع مثلا أن يقترح ترجمة هذا الكتاب أو تأخير أو منع ترجمة ذاك الكتاب.

موقع الكِنْدي آنذاك أعطاه سلطة معنوية عززت قدرته على الاتصال بدوائر الدولة والتقرب من مراكز القوى ومواقع القرار. كذلك فُتِحت أمامه أبواب السلطة وما توفره من علاقات زادت من صلاحياته وحسّنت من تأثيره المباشر على ديوان الخليفة.

والكِنْدي في حقل الاتصالات مع الدولة كان أقوى من شيوخ المعتزلة. فالشيوخ اجتمعوا في مقرات الخلافة لأسباب مختلفة تتراوح بين الارتزاق والنفاق وطلب الوظيفة وبين أصحاب الآراء وقادة مدارس أو اتجاهات طامحة إلى التأثير على توجهات السلطة وربما قيادتها. الكِنْدي جاء من موقع مختلف، فهو ابن وزير (والي الكوفة) وحفيد صحابي وسليل قبيلة سياسية عربية؛ ما أعطاه شوكة تعتمد على عصبية وجاه ومال. وكل هذه المعطيات ساعدت الكِنْدي على التمايز أو تمييز موقعه عن المعتزلة وشيوخهم من دون أن يقطع معهم. فهو من جانب تواصل مع شيوخهم ومن جانب آخر حرص على وضع مسافة بين «التكلم» و «التفلسف».

ربما يكون هذا الاختلاف التكويني بين الكِنْدي وصلته الطبيعية بالدولة وبين شيوخ المعتزلة وصلتهم الوظائفية بالدولة ساهم في تشكيل مسافة معرفية عزلت «المتكلمة» عن «الفلاسفة» وأسست لكل فريق حركته الفكرية الخاصة. ولكن محاولات الكِنْدي للاستقلال لم تكن كافية أو واضحة للسلطة على الأقل حين انقلب المتوكل على المعتزلة. فهو دفع الثمن السياسي من دون ملاحقة أو اضطهاد أو قطع أرزاق كما حصل لشيوخ الاعتزال.

آنذاك لم تكن الخطوط المعرفية واضحة للتمييز بين حدود «التكلم» و «التفلسف». وشكّل هذا الالتباس المعرفي الناتج عن تداخل ظروف المرحلة السياسية الانتقالية مناسبة للتمايز في فترة لاحقة بين الاتجاهين.

الكِنْدي كما يقول الباحث كمال اليازجي في كتابه «معالم الفكر العربي في العصر الوسيط» يمثل مرحلة «التقميش» إذ إنه شرح الفلسفة وعلّق عليها وانتقدها أحيانا. فهو حاول أن يجمع بين الاعتزال والفلسفة في جانب و إن يجمع بين الفلسفة والشريعة في جانب آخر معتبرا أن الغاية في النهاية واحدة.

الكِنْدي أيضا كما يقول الباحث جميل صليبا في «تاريخ الفلسفة العربية» توافق مع المعتزلة في أقوال كثيرة (العدل، التوحيد، إثبات النبوات، حدوث العالم، تنزيه الخالق عن صفات المخلوقات) واختلف عنهم في علومه الفلسفية والرياضية.

هذا الاختلاط بين المنزلتين وصفه الباحث ماجد فخري في «دراسات في الفكر العربي» بمرحلة «مفترق الطرق» حين كانت الفلسفة مترددة بين «مواصلة طريق الترجمة والنقل» وبين «الاكتفاء بمد الفقهاء والمتكلمين بالعدة العقلية الضرورية للانتصار للعقيدة الإسلامية» (ص 40).

ملابسات المرحلة السياسية لعبت دورها في تكوين فلسفة الكِنْدي وهو ما اعتبره الباحث عبدالرحمن بدوي في كتابه «الفلسفة والفلاسفة في الحضارة العربية» أول فيلسوف عربي يحاول المزج «بين الفكر اليوناني والفكر الديني الإسلامي» (ص 194).

الكِنْدي إذا نتاج مرحلة ساهمت ظروفها في صنعه. ولعبت مجموعة مصادفات وموروثات في تأهيله لوظيفة معرفية كانت آنذاك تلبي حاجة سلطة سياسية.

كيف حصل الأمر؟ لهذا الجانب قصته المستقلة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1792 - الخميس 02 أغسطس 2007م الموافق 18 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً