أصبح من المعروف بصورة أوسع أن أول جامعة في أوروبا أسسها المسلمون في إسبانيا. ولكن كم واحد منا، أكاديمي التوجه كان أم لا، يعلم أن لباس أساتذة الجامعات الرسمي الأسود تعود أصوله إلى القفطان، وهو اللباس الخارجي التقليدي للرجال العرب منذ أقدم الأيام؟
قبل ستة قرون من إبحار كريستوفر كولومبوس غربا لإثبات أن الأرض كروية - إلى أن «قطع» العالم الجديد رحلته - لم يعرف علماء الرياضيات المسلمون من الكوفة في العراق أن الأرض كروية فحسب وإنما استطاعوا كذلك احتساب محيط دائرتها بدقة مثيرة للإعجاب. وليس من العجيب أيضا أن الصليبيين الذين ساروا من أوروبا إلى الأراضي المقدسة لتحريرها من «الوثنيين» المسلمين عادوا إلى بلادهم بدروس جديدة عديدة في الحضارة إضافة إلى اختراعات علمية وبصيرة علمية فذة.
وقد ازدهرت بغداد بين القرنين الثامن والعاشر كأكثر عواصم العالم حضارة. جامعتها حضرها ستة آلاف طالب من كل أنحاء العالم، وكانت تملك أموالا تعادل ملايين الدولارات. شوارع بغداد كانت كذلك معبدة لها مجارٍ مسقوفة لمياه الأمطار وكانت شوارعها مُنارة.
ولفترة بلغت نحو الأربعة قرون (نحو 700 إلى 1100 ميلادية) كانت اللغة العربية، وليس اللاتينية، هي لغة العلوم العالمية. أثناء تلك الحقبة الإسلامية الذهبية درس الكثير من المسيحيين اللغة العربية ودرسوا في الجامعات المسلمة.
أعيد اكتشاف أرسطو وأفلاطون من قبل علماء المسلمين الذين قاموا بترجمة الكثير من المخطوطات الإغريقية إلى اللغة العربية. هؤلاء العلماء وصفوا أصول الكيمياء الحديثة وعلم الأرصاد الجوية والرياضيات وعلم الاجتماع والجغرافيا. كما كان الجراحون المسلمون أول من قام بتشريح جسم الإنسان.
وقد كان للمسلمين في تلك الحقبة هوى شديد ذائع الصيت للبحث العلمي والفكري، وقد تم بناء أول تلسكوب لأحد خلفاء المسلمين.
ولولا نظام الأرقام العربي الذي يضم الكسور العشرية والصفر لما أمكن تطوير العلوم الحديثة والأعمال التجارية.
كما قام علماء المسلمين في مجال الزراعة وفنيوهم المهرة بتطوير أبدع الأنسجة القطنية الحديثة كالموسلين والداماسك والكمبري. ومازالت السيوف الدمشقية والأنصال المصنوعة في طليطلة التي تم تطويرها على أيدي علماء المعادن المسلمين تحتفظ بقيمتها الكبرى. وقد وصلت منتجات مثل السكر والقهوة والأرز والكرز وفواكه الحمضيات وغيرها من المأكولات والبهارات المرغوبة إلى الموائد الغربية بسبب المسلمين.
ومن أعظم مساهمات المسلمين في العالم الغربي فن صناعة الورق، الذي استقاه العرب المسلمون من الصينيين وقاموا بتطويره. في غياب نوعية جيدة من الورق ذي الثمن المناسب، كان من المستحيل انتشار الطباعة وتوفر الكتب وانتشار التعليم.
إضافة إلى ذلك فإن واجب كل مسلم تأدية فريضة الحج إلى مكة المكرمة مرة واحدة في حياته على الأقل قد جمع معا علماء من أقاصي الأرض ومغاربها فانتشرت المعرفة العلمية بسرعة وتم التشارك بالاكتشافات والاختراعات وتبادلها عبر العالم المسلم وما وراءه.
وبينما كانت أوروبا تقبع في العصور المظلمة أرسى المسلمون أسس حضارة متقدمة ومتطورة إلى حد بعيد لم يعمل المؤرخون حتى اليوم على تفسيرها بشكل مرضٍ. وتقول الكاتبة الأميركية المولودة في بلجيكا ماي سارتون: «إن إيجاد حضارة جديدة ذات أبعاد عالمية واسعة خلال أقل من قرنين من الزمان أمر نستطيع وصفه ولكننا لا نستطيع تفسيره بشكل كامل. لقد كانت أكثر الحركات ابتكارا في العصور الوسطى وحتى القرن الثالث عشر».
لقد شجع الإسلام الفكر الحر وقام بتطوير الأسلوب التجريبي العقلاني، الذي هو أساس الفلسفة والعلوم الحديثة. لم يجرؤ الناس قبل عهد النبي محمد (ص) على إجراء التجارب خوفا من انتقام الأرواح الشريرة. وقد كال النبي (ص) ضربة قاتلة للكثير من الخرافات الزائفة والمخاوف الجوهرية وساعد على إعداد مجتمع إنساني للاحتمالات العظيمة للبحث العلمي.
وفي أحد أهم أقواله عن الموضوع أكد النبي (ص) أن «حبر العالِم أكثر قدسية من دم الشهيد». لقد علَّم المسلمين أن الجهل هو أعظم فقر تعاني منه الإنسانية، وأن العقل بلا تعليم كالرجل الشجاع بلا سلاح وأن المعرفة تأتي بالبشر بغض النظر عن نوعهم الاجتماعي أو عمرهم أو عرقهم أو عقيدتهم إلى أعلى مراتب الإنجاز البشري.
وقد كتبت أعظم الرسائل اليهودية في العصور الوسطى من قبل ابن ميمون ليس بالعبرية وإنما بالعربية. وفي مثال آخر على التعاون عبر الأديان في تلك الأيام أن مسيحيا كان رئيسا لإحدى كليات دمشق.
كما طور الإسلام فن عمارة مميز يمكن متابعة تأثيره عبر الهند إلى الصين وإفريقيا وروسيا. فبينما نقل التتر الفن والثقافة الإسلامية إلى روسيا أتى الأتراك بها إلى البلقان والنمسا وبولندا وجنوب ألمانيا. ولاتزال الأزياء التقليدية البافارية والسجاد الهنغاري والخوذ البروسية تكشف أصولها الإسلامية في التصميم.
نعترف بأن أوروبا كانت بطيئة في الاعتراف بكون الثقافة الإسلامية مصدر النهضة فيها. ولكن الحضارات الأوروبية تحولت من خلال تأثير الفكر والعلم الإسلامي وخصوصا في صقلية وإسبانيا.
يبدو اليوم أن حضارات الشرق والغرب، أو العالمين المسلم وغير المسلم قد انعكست. ولكن ربما يكون الأمر الأكثر احتمالا هو أننا نسينا تلك الأمجاد السابقة في غمرة سعينا وراء الأمور المادية والأجندات السياسية في عصرنا الحاضر. إن إعادة اكتشاف إنجازات المسلمين وتجديد تقديرها سيعودان بالفائدة على الإنسانية جمعاء، ويسمح لنا أن نرى، ونأمل أن نحل النزاعات الحالية عبر الطيف الأوسع للتاريخ الإنساني.
*أستاذ في هندسة الكهرباء والحاسوب بجامعة واترلو والرئيس الوطني للمجلس الإسلامي الكندي، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1792 - الخميس 02 أغسطس 2007م الموافق 18 رجب 1428هـ