تعددت جيوش الاحتلال في العراق، ومع التعدد تعرف الأهالي على صفات كل جيش من هذه الجيوش، فالجندي البريطاني هادئ ويتعامل (أمام الناس على الأقل) وكأنه سياسي أكثر من كونه عسكريا، أما الجندي الأميركي فهو متهور، والدنماركي إنساني في التعامل يسعى إلى إنهاء مهمته من دون أن يفقد حياته.
الحكايات التي يتناقلها الأهالي عن القوات المحتلة شكّلت الصورة النمطية لكل جيش من هذه الجيوش، وأغرب هذه القصص والحكايات كانت مع الجيش الياباني أو كما سمي بـ «القوات غير القتالية».
لأوّل مرة منذ الحرب العالمية الثانية كانت اليابان ترسل قوات إلى خارج حدودها، وخارج الحدود صادفت أن تكون داخل العراق، ولكن أي عراق... عراق انهكته حروب طويلة وحصار قاس دام أكثر من عشر سنوات غيّر الكثير من تركيبة المجتمع العراقي المعروف بخصائصه في المنطقة.
اختار اليابانيون أو خيّروا للعمل في محافظة المثنى ومركزها السماوة، ولمَنْ لا يعرف هذه المحافظة فهي تقع وسطا بين العاصمة بغداد والبصرة، وتبعد نحو 270 كيلومترا عن بغداد، وهي تحادد محافظات البصرة وذي قار والنجف والقادسية، بالإضافة إلى المملكة العربية السعودية والكويت.
اختيار اليابانيين للسماوة كان موفقا إلى حد بعيد فالمحافظة مسالمة على رغم أنها كانت في مقدّمة مَنْ ثار في ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى، كما أن سكانها يشكّلون عشائر متجانسة منذ مئات السنين.
الهالة الإعلامية كانت تسبق دخول القوات اليابانية إلى العراق، فما إن غادرت طلائع اليابانيين بلادها حتى قررت (هذه الطلائع) الاستراحة من عناء السفر في ضيافة القوات الأميركية في الكويت رغم أن الرحلة كانت جوية، وفي العراق كان على القوات الهولندية في السماوة تقديم وسائل الراحة للجنود اليابانيين المتعبين من مشقة رحلة لم تدم أكثر من أربع ساعات.
أخيرا نزل اليابانيون بملابسهم السوداء وعرباتهم العسكرية التي تشبه إلى حد بعيد سيارات ومعدات «النينجا» إلى المنطقة المخصصة يتقدمهم صحافيون ومصوّرون من أنحاء العالم.
بدا اليابانيون غير عارفين بطبيعة الشخصية العراقية، إذ ما إن التقوا بوجهاء المحافظة حتى بدأوا بإطلاق تصريحات ووعود تفيد بإعمار المحافظة وتوفير الماء الصالح للشرب وإعادة التيار الكهربائي وتوفير فرص عمل والقضاء على مرض شلل الأطفال، وغيرها من الوعود، كان الغرض الواضح منها هو كسب ود الأهالي واستمالتهم وعدم استعدائهم.
مرت أسابيع وبعدها أشهر والوعود اليابانية لم تنفذ، فبدأ الأهالي - كعادة أهل الجنوب في العراق - يسخرون من هذه القوات ووجودها بينهم.
وبدأ صوت الأهالي يعلو، فها هو أحد وجهاء العشائر يقول: لم نستفد من هذه القوات سوى في قضائها على الكلاب التي أصبحت وجبة شهية لهم، وشبه القوات اليابانية بأنها كـ «الفزّاعة في حقل الشعير، فلا هي قاتلت مع بقية الجيوش, ولا هي عمرت شيئا مما وعدتْ به في المدينة».رافق هذه الانتقادات مظاهرات نظمها مواطنون وعشائر من أهالي المدينة.
أمام هذه الورطة التي أوقع اليابانيون أنفسهم فيها، ماذا يمكن أن يفعلوا لإعادة الود المفقود مع أهالي المدينة؟
الحل كان قصة اخرى تفاصيلها في الحلقة القادمة.
إقرأ أيضا لـ "علي الشريفي"العدد 1791 - الأربعاء 01 أغسطس 2007م الموافق 17 رجب 1428هـ