لا تقل سلسلة أفلام «هاري بوتر» نجاحا عن تلك النجاحات التي تحققها الرواية التي صدر الجزء السابع والأخير منها في الأسبوع الماضي. فالرواية اكتسحت الأسواق وتحولت إلى طقس سنوي ينتظره القراء في كل أنحاء العالم. وسلسلة الأفلام تحولت بدورها إلى سوق ناجحة تجذب المشاهدين في كل دور السينما في العالم.
الجزء الأخير من سلسلة الأفلام يعرض حاليا في سينما السيف وهو بدوره يستقطب فئات من المشاهدين تتراوح أعمارهم بين الطفولة والشباب. وهذا النجاح المزدوج على صعيدي الرواية والسينما له سره الخاص. فالفكرة تداعب المخيلة وتثير إشكالات راهنة في سياقات خرافية تجمع بين الواقعية والفانتازيا. وهذا الدمج بين الواقع والمخيلة وبين الحقيقة والكذب يثير في العقل أسئلة تجعل القارئ يتابع بشغف صفحات الرواية، كذلك تشجع المشاهد على متابعة لقطات الشريط السينمائي الذي يتشكل من زاويتين: الرعب والخوف من جهة والمرح والتسلية من جهة أخرى.
الجمع بين المتناقضين شكل فانتازيا تسحر المشاهد وتجعله يتابع خرافية قريبة زمنيا إلى العالم المعاصر. ففي الفيلم الذي يعرض حاليا في البحرين يرى المشاهد تلك الصور المثيرة لأطفال يحلقون فوق مدينة لندن ويتحركون بقوة في الأزقة ونهر التايمز على «مكانس» يستخدمها الناس يوميا في منازلهم. فالأدوات إذا قريبة من ذهنية الناس وحياتهم العادية والمدينة التي يطير فوقها الأطفال حديثة ومعاصرة. القصة إذا تتحدث عن زمن راهن وليس عن فترة سحيقة وبعيدة عن حياة المشاهد. والمسرح (المدينة) لا يعود إلى عصور وسطى للعاصمة البريطانية وإنما إلى لندن كما هي على حالها اليوم.
الجمع إذا بين الخرافة والمعاصرة يشكل نقطة قوة أولى واعتماد المخرج على أدوات يستخدمها البشر يوميا تشكل نقطة قوة ثانية. وهذا النوع السينمائي في تحديث الخرافة يجعل الأفكار قريبة من ذهنية إنسان لا يصدق ما يقال ولكنه على قناعة بأن ما يقال يتصل مباشرة بعالمه المعاصر ولا يخاطب فترة مضت أو انقضت.
هذا الجانب التصويري لمشاهد الفيلم يشكل قاعدة نجاح لجذب الناس. فالصورة تخاطب الحاضر إذا لابد أن تكون الفكرة تتحدث عن حالات وظروف راهنة.
عن ماذا تتحدث قصة الفيلم الأخير من سلسلة «هاري بوتر» ؟ إنها تتناول أكثر من طبقة متخيلة. فهناك العالم التحتي (المخابرات) وهناك النظام التربوي والصراع على السلطة، وهناك النزاع بين قوى الخير والشر. والمخرج استطاع الجمع بين المتخيلات الطبقية بأسلوب خرافي وقريب إلى عقل المشاهد. فهو صور العالم السفلي بطريقة مفهومة للعقل المعاصر حين استخدم صندوق الهاتف وسيلة للنقل من الأرصفة إلى عالم آخر يتحرك تحت الأرض من دون علم البشر فوق الأرض. وهو قام بترسيم صورة سلبية عن نظام التربية والتعليم في معاهد التدريب على السحر بطريقة قريبة إلى منهجية معاصرة يعيشها الطلبة في مدارسهم. كذلك جسد عالم الشر والخير وفق تراتب روحي يتمثل في البشر ويخترق حياتهم وأحلامهم.
هذه «الفانتازيا» المتخيلة ليست بعيدة عن عقل المشاهد الذي يتابع الصور في سياق زمني يعيشه يوميا وليس غريبا عن عالمه. وبسبب هذه المقاربة الذكية بين الخرافة والعقل والقديم والمعاصر استطاعت أفلام «هاري بوتر» جذب جمهور متنوع في مزاجه يملك الاستعداد لتقبل مشاهد غير مألوفة ولكن يمكن تصديقها أو التعامل معها بإيجابية.
قصة الفيلم خرافية. ولكنها تستند إلى معادلة إنسانية موجودة أيضا في عالم السحر. فالعالم الآخر ينقسم كالبشر بين كتلة الخير وكتلة الشر والصراع الدائم بينهما ونجاح الشر أحيانا في اختراق كتلة الخير واستخدامها لغايات غير شريفة ونبيلة. والعالم الآخر أيضا تسوده مراكز قوى ومخابرات وشبكات تجسس تراقب بعضها وتشك بنزاهة أفرادها. والعالم الآخر الذي لا نراه هو أقرب العوالم لدينا، فهو يعيش معنا وبيننا ولا نحس به ولا يشعر بنا. والعالم الآخر الذي يتنافس فيه الأقوياء ضد بعضهم وضد الضعفاء في وقت واحد. والعالم نفسه تسوده عقليات غير متوافقة. فهناك الساحر الطيب وهناك الشرير وهناك من يستخدم السلطة لمصالحه وهناك من يطوع السلطة لمصلحة الناس.
كل هذه الحلقات موجودة في «هاري بوتر» ومتداخلة. فهاري طالب يدرس في معهد للتدريب على ممارسة السحر. وقانون المعهد يمنع على الطالب استخدام أساليب الخداع وأدواتها من دون رخصة حتى لا ينهار نظام المؤسسة وتدب الفوضى. هاري يضطر إلى استخدام أدوات السحر دفاعا عن نفسه حين تهاجمه كتلة الأشرار. وبسبب مخالفته للقانون يتم تحويله إلى المحاكمة. وفي قاعة المحكمة ينقسم الادعاء والدفاع بين رافض بقسوة ومتفهم للظروف والحاجة. ويحسم القضاء المسألة لمصلحة تبرئة هاري.
المحكمة التي يصورها المخرج ليست غريبة وإنما هي قريبة لعالم البشر. وهذه المقاربة تعتبر خطوة لتقريب العالمين واكتساب ثقة المشاهد.
وفي معهد تدريب الطلبة على ممارسة السحر تظهر قاعات التدريس عادية تشبه كثيرا قاعات مدارس البشر. ونظام التعليم لا يختلف كثيرا. كذلك منظومة الدوام والمراجعة والمذاكرة وصولا إلى الإدارة وصراع الأجنحة بين كتلة تميل إلى الانفتاح والتسامح والليونة وكتلة مضادة ومنافسة تميل إلى الانغلاق والتكبر والقساوة في التعامل مع الطلبة.
مشاهد صراع السحرة (الأساتذة) قريبة أيضا من عالم البشر وتنافس القوى على الرأي وصناعة السلوك اليومي في حياة الناس وأساليب تعاملهم. فالمشاهد الذي يتابع الصور لا يستغرب الأمور لأنها ببساطة تشبه عالمه وتجربته الخاصة ورؤيته لعالم تربوي لابد أن يكون تعرض للكثير من سلبياته في فترة الطفولة والشباب.
عالم السحرة إذا ليس بعيدا عن عالم البشر في حياته وأسلوبه وسلوكه وخلافاته ومراكز قواه وأنظمة التدريب المتبعة أو شبكة المراقبة والملاحقة وصولا إلى قاعات المحكمة أو قاعات الطلبة. ومثل هذا العالم السحري لا يخضع كله للشر فهناك قوى متسامحة تدافع عن الخير وتناصره وتنصره لحماية الإنسان (أو السحرة) من الظلم والطغيان والتسلط وإصدار القوانين القاسية التي لا هدف لها ولا معنى سوى إيذاء الناس وتعطيل حياتهم ونشر الكراهية بينهم وفك الشراكة الإنسانية التي تجمع الأفراد وتوحد مصيرهم.
قصة «هاري بوتر» نجحت في انتزاع ثقة القارئ كذلك ذهبت سلسلة الأفلام في الاتجاه نفسه. فالمتخيل ليس بعيدا عن عالم الإنسان، والخرافة ليست بالضرورة مخالفة للواقع، والمختلق ليس دائما ضد العقل. فالعالم الآخر الساحر هو أقرب ما يكون لعالم البشر. وبسبب هذه المقاربة بين القطبين اكتسبت الرواية شعبية عالمية من الشرق إلى الغرب كذلك نجحت أفلام الرواية في اكتساب جمهور من المشاهدين يستمتع في رؤية خرافات ظريفة وبسيطة وليست غريبة عن عالم الإنسان.
العدد 1791 - الأربعاء 01 أغسطس 2007م الموافق 17 رجب 1428هـ