القانون/ الديمقراطية
الكورس الكبير: مهم جدا وقبل كل شيء أن نتعلم الموافقة
فهناك كثيرون يقولون نعم على رغم عدم الموافقة
وكثيرون لم يسألوا وكثيرون يوافقون على الخطأ
لهذا السبب من المهم جدا، وقبل كل شيء ينبغي أن نتعلم الموافقة.
مسرحية «مَنْ قال نعم مَنْ قال لا»
(بريخت)
لم يعرف القرن العشرون في الوطن العربي إلا أضواء خادعة ووعودا كاذبة فلم يقدر لدعوى الديمقراطية أن تجد في الفضاءات العربية مكانا طيبا، لكن ما هو أخطر هو المفهوم نفسه، فالديمقراطية حمّالة للوجوه والغموض وتاريخها يدل دلالة قاطعة على أن المفهوم بحد ذاته معقد مشكل مشكك فقط في الوطن العربي يتم الحديث عنها وكأنها مفهوم واضح وجلي. فليس هناك مشكل واحد للديمقراطية كما هو معروف. وليس هناك من أحد اليوم إلا ويزعم أنه ديمقراطي وجميع الأنظمة والحركات السياسية والفكرية بأشكالها الفردية والجماعية إلا وجعلت الديمقراطية ديدنا مطلقا فضحت على نحو مروع القواعد الدفينة والأسس المزيّفة والتسويقات الخادعة التي في قواعد البنى التاريخية لأولئك الذين نسبوا وجودهم الخارجي إلى هذه الدعوى، فالحقيقة هي انه لم يتعلّق بها بصدق الدعوى بمحتوياتها المشخصة إلا نفر قليل كما بين فهمي جدعان، فقد جاء تعريف لنكولن الديمقراطية بأنها حكم الشعب بالشعب للشعب تعبيرا صريحا فتحليل تعريف لنكولن إلى عناصره نجد أنه يدخل في اعتباره كل العناصر اللازمة للديمقراطية فيه إشارة إلى طاعة الناس للحكومة وإلى مشاركة الناس إيجابيا في تشكيل القرارات، وفيه إشارة إلى قيمة مثل هذه القرارات في تحقيق الصالح العام للشعب فالحقوق والواجبات هو الطابع المميز للديمقراطية وقد تزعم الأقلية لنفسها في بعض الأوقات احتكار كل الحكمة الموجودة في المجتمع وتعتقد أنها تتصرف لصالح المجتمع، وبطريقة متسقة أو لفترة طويلة فتفسيرها لمصلحة المجتمع كثيرا ما يكون تبريرا لأغراضها الخاصة تستخدمه للتغلب على مصاح الغالبية ويثبت التاريخ كله أن أية طبقة أو مجموعة في الناس كانت دائما في موقف تخلف من الناحية الاجتماعية والسياسية. وجوهرة الديمقراطية يكمن في الميل إلى توسيع الحقوق والواجبات والمساواة بين الجميع وإذا صح هذا كان من البديهة أن الديمقراطية لا يمكن أن تكون مجرد مفهوم سياسي يحدد الظروف والوسائل والنتائج على وضع القرارات وليس هذا مجرد لبس في استخدام المصطحات لكنه يذهب إلى صميم معنى الديمقراطية أنه في المشكوك فيه أن تقوم ديمقراطية سياسية سحبته ومحاولة منح المساواة في المجال السياسي وحده تفيض عليها عدم وجود المساواة في ثروة والمركز والوضع الاجتماعي وفوق كل هذا عدم المساواة في الذكاء وفي التعليم ففي السخرية أن يقام تسابق حريين عداء مطلق الساقين وبين كسيح مثقل بأعباء ضخام وتصوير مفهوم الديمقراطية السياسية الجثة إذا خلت من كل ما لدها من عناصر المساواة البشرية سبب في إغفال الفلاسفة السياسيين أنفسهم لعدم جدوى الحرية السياسية المجردة، هو أن إجراءات الوصول إلى القرارات لابدّ أن يؤثر في محتوى القرارات وحيثما كانت السيطرة السياسية في أيدي الأفراد أو مجموعات من الأفراد فلا مفر من أن هؤلاء مهما يبلغ من إخلاصهم سيصدرون قرارات تحقق مصالحهم أما بطريق مباشراو غير مباشر ويرجع هذا على الأقل إلى قصور وجهات - نظر المشتركين في مثل هذه السلطة.
ففي مجتمع لكافة الفرص وحرية التجارة ودور الفرد التي تبالغ فيه الديمقراطية كثيرا يقول «دي توكفيل» إن الديمقراطية توسع مجال الحرية الفردية حيث يقال إن الديمقراطية تعطى لكل شخص قيمته الكاملة الديمقراطية تريد المساواة في الحرية لكن كما هو معروف في مجتمع حرية التجارة يفترض في الفرد أنه مستقل لكن أبرزت الوقائع أكثر من مرة كانت هذه الحرية لا تعدو حرية الفرد في أن يموت جوعا وأن الحرمان من وسائل العيش يضع حدودا طبقية جدا للحرية الفردية المزعومة في مجتمع حر.
في «سياتل» سقط القناع عن وجه الليبرالية التي ادعت بالحرية فقد ظهرت منظمة التجارة الدولية معادية للديمقراطية بشدة ومدمرة للحريات كما للبيئة.
هنا يأتينا صوت الزرقاء وهي تخبر بسام وتقول: آه يا ولدي... ليتني فقدت بصري قبل أن أبصر. أبصرت ابني يقتل ابني وأنا مشلولة لا أستطيع أن أتدخل أو أتحرك. وأبصرت هل تريد حقا أن تعرف ماذا أبصرت؟ يرد بسام قائلا: نعم يا خالتي... أريد أن أعرف لأن قلبي مليء بالتوجسات. تقول الزرقاء: يا ولدي... ستزيدك المعرفة توجسا و يتضاعف عذابك كلما أكتشفت أنك أضعف من أن تغير مسار الأشياء. لكن بسام يقول: ومع هذا أريد أن أعرف.
وهنا تبدأ الزرقاء بسرد النبؤة حيث تقول: المعرفة... المعرفة... أحيانا تكون الفطنة أن يتجنب المرء المعرفة، أشعر رعدة في ظهري. كأنما بداية برداء تعقبها الحمى، ليتني لا أعرف ولا أرى، ولا أدري متى تم ذلك، ولكن أعلم أن قرينه الشيطان، وأن بينهما إتفاقا وميثاقا. إنظر وانظر، تتعدد أمامي الرؤى وتتداخل الأشكال والهيئات، ولا أستطيع أن أبصر القرين بوضوح. لكني أبصر حركاته وألمح شيئا من خططه وآثاره، ستخيم على القرية غواية لا تقاوم. أبصر الناس وكأنهم سكارى، فقدوا البصائر والضمائر، مقامات تنهار وأعراض تباع. آه أبصر ما هو أرهب. أرى أشجارا تخلع خضرتها تتفحم... أرى ثعبانا يتقيأ فئرانا. أرى مطرا من الأشياء الملونة والنفايات تلتهم الأشياء والنفايات تصير أشياء ونفايات. آه ما أبصره يجعل أسناني تصطك. ليتني لا أبصر ليتني كنت قطرة ماء تحملها الأنها إلى أعماق البحار، فأستقر هناك عن عذابات الناس وعماها.
يرد عليها بسام ليقول: أتكون أيامنا المقبلة مظلمة إلى هذا الحد؟
يرد المؤلف سعد الله ونوس الذي استعار عيني زرقاء اليمامة ليحذرنا مما رأى فيقول: ربما فاتتني علامات لم أبصرها، فيعتذر منها بسام قائلا: أعذرني لم أكن أعلم أن الإبصار يرهقك إلى هذا الحد. فيرد ونوس قائلا: تلك نعمة ليتني لم أستعدها. إيهٍ على أيامنا كانت الحياة أسهل، صحيح كنا نشقى في الأرض على مدار الفصول الأربعة كي نؤمن من لقمة العيش، نربي أطفالنا، ولكن كانت الهموم بسيطة، والحاجات قليلة وعلى رغم الفقر والتعب كنا نشعر بالاطمئنان والأيام تجري بيسر وأمان، لكن بسام يباغتها بجوابه: لا يا خالة. لن أترحم على تلك الأيام، كان الفقر كافرا، ذات شتاء وكنت طفلا صغيرا لم نذق خلال شهرين متواليين سوى الأعشاب المطبوخة بقليل من الزيت. فتمزق روح ونوس ظلمة القبر ليقول: وأنا لن أهلل لهذه الأيام التي يقتل فيها الأخ أخاه، يرد عليه بسام قائلا: معك حق. لا هذه تستحق التهليل، ولا تلك تستدعي الترحّم، لو توفر لنا الوعي والإرادة لوجدنا الطريق الصحيح الذي يخلصنا من الفقر ويوفر لنا التقدم والكرامة. لكن أي تقدم وأي كرامة بعد أن تراكمت الأكاذيب حتى تمت هزيمة حزيران وانتهى الحلم الذي كان يحرك الشارع العربي وجاء زمن الانفتاح الساداتي مع عودة الابن الضال عادت الرأس مالية، حين نتأمل الواقع الاجتماعي والسياسي في كامب ديفيد الأولى في امتداداته وخلفياته في الاختيارات الاقتصادية التي فرضت عليه والتي ولدت ذلك المأزق الرهيب مما سبب انفجارا رهيبا، أليس الانفجار المخيف قد حدث في لبنان والذي لا يمكن فصله عن اختيارات كامب ديفيد الأولى، وبدأنا نرى عودة الرأس مالية الوحشية التي أدت بالصراع في لبنان إلى حد الانفجار على رغم الغطاء الطائفي! أليس عودة الابن الضال هو عن عودة الرأسمالية وطلبه هو الشخصية الرئيسية المحرك الأساس للأحداث حوله تتمحور الصراعات، وبسببه تتفجر المواقف، وشخصية مركبة تجسد بتصرفاتها وعقليتها وطموحاتها وأفكارها النزعة الرأس مالية، فهو يحتكر القرار في العائلة ويسخر كل شيء في سبيل ما يسميه مصلحة العائلة.
* ناقد وكاتب ومخرج مسرحي
العدد 1791 - الأربعاء 01 أغسطس 2007م الموافق 17 رجب 1428هـ