في إطلالته الأخيرة على قناة «الجزيرة»، كشف السيد حسن نصر الله عددا من الأمور التي انتظر اللبنانيون والعرب معرفتها، بعد شهور طويلة من الجدليات البيزنطية.
نصر الله قال إنّ الذين قاتلوا في حرب تموز «لم يكونوا من القرى الأمامية فقط، بل من كل أنحاء لبنان، وهؤلاء هم ثروتنا الحقيقية الذين يقاتلون دفاعا عن وطنهم وكرامتهم وأرضهم، ويفرضون إرادتهم على كل المتغطرسين في العالم».
نصر الله أكّد مرارا مقولة «النصر الإلهي»، لإيمانه بأنه يدافع عن الأمّة وكرامتها وحضارتها، في وجه الغطرسة الأميركية، وكان يدرك تماما الأرض التي يقف عليها، فاستذكر وادي الحجير، واستحضر روح شرف الدين الذي حكم عليه الفرنسيون قبل ثمانين عاما بالإعدام فلجأ إلى مصر، ووقف بين الجموع خطيبا:
إن لم أقف حيثُ جيشُ الموتِ يزدحمُ
فلا مشتْ بيَ في أرض العُلا قدمُ
نصر الله أشار إلى أن مقاتلي المقاومة لم يهربوا من أماكنهم، بل كانوا يقاتلون حتى آخر طلقة، فإمّا الشهادة أو الوقوع بالأسر. هؤلاء لم يخلوا مواقعهم للعدو، أو يستبدلوا ملابسهم العسكرية بدشاديش بيضاء لطمأنة العدو بالاستسلام، أو يدفنوا أسلحتهم في الرمال ويدخلوا قراهم خفية على ظهور الحمير كما فعل بعض القادة العرب، وعندما تسقط العواصم يبدأون في اللطم.
هذه المقاومة حاربت 34 يوما، وأنهكت ثلاثة ألوية من «قوات النخبة» الإسرائيلية، التي بدأت تستنجد في الأسبوع الأول من الحرب، وبدأ أفرادها يصرخون طلبا للاستبدال، بينما كانوا يستظلون بأقوى سلاح جو في منطقة الشرق الأوسط كله.
نصر الله كان واضحا جدا، فهو لم ينتظر أحدا في العالم ليحارب عنه، ولم يستأذن عاصمة في الدنيا للدفاع عن بلده، «فمنذ 48 و(إسرائيل) تقتلنا والعالم يتفرّج»، ولم يبحث عن «شرعية دولية» أو «مجلس أمن» يبارك مقاومته، فـ «مشروعنا مشروع مقاومة، ونحن ندافعُ عن أنفسنا وأرضنا وبلدنا وكرامتنا» كما قال.
هذا المنطق الثوري الذي يلقى قبولا شعبيا واسعا في العالمين العربي والإسلامي، ليس موضع إجماع داخل لبنان، ففي مقابل فكرة المقاومة المتسلحة بكرامة وتاريخ وحضارة الأمّة، هناك مَنْ لا يرى في لبنان غير محطة صيفية للراحة والاستجمام، وفرصة للاستثمار وإنتاج برامج الصبايا والمغنيات. من هنا ذكّر نصر الله أن كلّ حركات التحرّر في التاريخ لم تكن تتحدّث عن خسائر وإنما عن تضحيات، وإنها لم تتوقف للبكاء على الأطلال وإنما اعتزت كثيرا بالنصر والتضحيات والآلام والدموع والدّماء، وأقامت النّصب التذكارية للمقاتلين والجنود المجهولين.
وبعيدا عن هذا الخلاف المستحكم، يذهب نصر الله في قراءته للحدث إلى النقطة الأبعد حينَ يخاطبُ أهلَه وشعبَه: «أنتم أسقطتم هذا الوليد غير الشرعي المسمّى بمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي بشّرت به كونداليزا رايس حتى بلعت لسانها ولم تعد تتكلم عنه، وأنتم مَنْ أجهضتم هذا المخاض».
هذه الملحمة العربية الإسلامية الكبرى التي لن توضع في إطارها التاريخي الحقيقي قبل مرورعدّة عقود، كان مطلوبا أن تضيع ويُعمّى عليها، فكان هناك الإعلام الناطق بالعربية والسائر في ركاب المشروع الأميركي، والمقالات المدجّجة بالأكاذيب والأوهام والمال الحرام، الذي ما فتيء يعمل على الوقيعة بين المسلمين وتمزيق صفوفهم وإلقاء العداوة والبغضاء بين طوائفهم؛ ليقاتل كلٌّ منهم الآخر وينسى المحتلَ، حتى عادت رايس اليوم لتتحدّث عن تقديم «مساعدات عسكرية لدول الخليج و(إسرائيل) ومصر من أجل التصدّي للتأثير «السلبي» الناتج عن القاعدة وحزب الله وسورية وإيران».
يا سيّد... أين الأمّة وأين الكرامة التي تتحدّث عنها في هذا الزمان؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1790 - الثلثاء 31 يوليو 2007م الموافق 16 رجب 1428هـ