دعت الأمم المتحدة في تقريرها السنوي للعام 2002م والمعنون بتقرير التنمية الإنسانية للدول العربية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى اتخاذ الإمام علي بن أبي طالب (ع) نموذجا لتشجيع المعرفة وتأسيس الدولة على مبادئ العدالة وفقا لفكره عليه السلام.
وقد احتوى التقرير المذكور على الكثير من الكلمات التي أوصى بها الإمام ولاته وعماله وخصوصا ما جاء في عهده لمالك الأشتر حين ولاه على مصر.
وفي ذكرى مولده الذي صادف السبت الماضي 13 رجب الموافق 27يوليو /تموز2007، وفي ظل ظروف الدول النامية واستمرار تخلفها نتيجة ابتعادها بالدرجة الأولى عن سمات الحكم الصالح، يجدر التعرّف على مفهوم هذا الحكم في فكر الإمام علي (ع).
لقد ظل الإمام علي (ع) بين فترة وأخرى يذّكر الناس بمكانة أهل البيت (ع)، وطالما شهد في حق نفسه بالأدلة والبراهين فقال: «... ينحدر عني السيل، ولا يرقى إليّ الطير»، وكان يحث الناس على الالتزام بأهل بيت العصمة ولا منجي لهم في حال الفتن والملمات إلاّ هم، ومن ذلك خطبة له في النهروان قال فيها في معرض جوابه عن أحدهم حين تحدث عن الفتن، فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين ما نصنع في ذلك الزمان؟ قال (ع): «انظروا أهل بيت نبيّكم، فإن لبدوا فالبدوا، وإن استصرخوكم فانصروهم تؤجروا فلا تسبقوهم فتصرعكم البلية»، وقال: «نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد»، وقال عن نفسه كلاما كثيرا يدل على عصمته كما يرى الفكر الشيعي.
ولكن حين يتحدث للناس وهو في موقع الحكم كانت له لهجة أخرى، فهو يستحث الناس على محاسبته ومراقبته، فيخاطب الناس بقوله: «أيها الناس، إنّما أنا رجل منكم لي ما لكم وعليّ ما عليكم «.(1)، فكما له حقوق، عليه واجبات أمامهم.
وحاول تأسيس نمط من الحكم يكون للأمة دور متعاظم في الشأن العام، وقد أرسى مبدأ الذمة المالية عندما تسلم الخلافة، إذ وقف مخاطبا أهل الكوفة: «يا أهل الكوفة، إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي ورحلي وغلامي فلان، فأنا خائن» (2).
فكيف يستقيم ذلك كله مع فكر العصمة الذي طالما ذّكر به بين فينة وأخرى وفي عدد من المناسبات؟ إذ إن هذه المواقف وهذا الخطاب تنسف العصمة نسفا الذي يفترض أن المعصوم فوق المساءلة. وهذا الخطاب الذي صدر عن الإمام (ع) لم يصدر عن النبي (ص) وهو في الحكم بل غضب الرسول (ص) حين قال له أحدهم ما عدلت، بل لم يصدر مثل ذلك عن الأئمة الأحد العشر من ولده والذين دائما ما يؤكدون عصمتهم وحقهم في طاعة الناس لهم كما يذهب لذلك الفكر الشيعي.
إذا لماذا كان موقف الإمام وهو في الحكم مطالبا الناس بمراقبته ومحاسبته وعزل الوالي الذي لا يخدمهم؟
إن مواقف الإمام التي تؤكد على دور الأمة وحقها في عزل الوالي والخليفة نابعة من العقد الذي انعقد بينه وبينهم، فالناس حين بايعته لم يكن ذلك على أساس أنه إمام معصوم مفترض الطاعة مثله مثل رسول الله (ص)، إذ إن الحوادث لم تسمح بتكريس هذا المفهوم إلا بين ثلة قليلة جدا من المسلمين، ولو بايعوه على هذا الأساس، لكانت مبايعتهم له فقط من أجل الوثوق والتعهد بالنصرة، إذ لو كان الإمام في تصور الناس معصوما مفترض الطاعة لكان ذلك يعني أنه مختار من قبل الله ولا شأن للناس في ذلك، غير أنهم لم يبايعوه وفقا لهذا المفهوم، وإنما بايعوه مثلما بايعوا الخلفاء من قبله كما قال في خطبة له: «إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، ...»(3).
وقال مفتخرا باختيار الناس له بملء إرادتهم: «وبايعني الناس غير مستكرهين ولا مجبرين بل طائعين مخيّرين».
ولأن الناس قد بايعته على أساس أنه خليفة لهم، لهذا جسّد الإمام هذا العقد بينه وبين الناس بدقة متناهية، فهو يتعامل معهم على أساس أنهم استخلفوه على إدارة شئونهم وتحقيق مصالحهم، وبالتالي فهو ليس مالكا للحكم وإنما وكيلا للأمة فقط وأمينا على الحكم، والوكيل يجب أن ينفذ ما استوكله صاحب الشأن. وكونه خليفة للمسلمين تقود لنتيجتين تشكلان أساسا لمفهوم الحكم الصالح في فكر الإمام كما أرى، هما كما يأتي:
1. الحاكم وكيل عن الأمة.
2. إن الأمة مسئولة في المحافظة على مصالحها ومنع استبداد الحاكم.
ولضمان تحقيق هاتين النتيجتين، سعى الإمام (ع) لتأسيس نمط جديد في العلاقة بين الحاكم والشعب، تؤدي في كثير من مفرداتها إلى تكريس عادات وأعراف يعتادها الناس في علاقتهم مع الحكّام، تقوم على رقابة الأمة على الحاكم ونقدها للسياسات الخاطئة، واشتراكها في القرارات المتعلقة بمصالحها، فطالما كان يستحث الأمة على أن تتعلم النهوض وانتزاع حقوقها بنفسها، فهو يخاطب القاعدة ويخاطب المستضعفين بقوله: «... ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّا...» (4).
وفكرة أن الحاكم ليس سوى أمين على الحكم وكيل قد وكلته الأمة للترافع عن مصالحها متجسدة في كثير من أقوال الإمام (ع)، منها ما أرسله لبعض عماله على الخراج: «فأنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم، فإنّكم خزان (5) الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمة...» (6). وهذه العبارة تعكس بدّقة مصطلح «خليفة المسلمين» أي الذي استخلفوه كوكيل لتنفيذ إرادتهم ومصالحهم، وهذا ما سعى له الإمام كوفاء بالعقد الذي بينه وبين الأمة.
وجاء في كلمة له تعكس مفهوم أن الوالي وكيل يجب أن يكون أمينا على ما وُكّل عليه من وظائف تتعلق بحقوق الناس وأمورهم، ففي كتاب للإمام إلى عامله على أذربيجان، يقول فيه: «وإن عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعى لمن فوقك، ليس لك أن تفتات(7) في رعية...» (8).
وبما أنّ الحاكم عند أمير المؤمنين، ليس سوى أمين على مصالح الرعية، ونتيجة لغياب فكرة العصمة، حينها لا يهم عنده أن يتسنم هو الخلافة أو غيره مادامت أمور المسلمين في سلام. يقول الإمام «... والله لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة...» (9).
وكثيرا ما كان في كتبه يفرد كتابا خاصا مخاطبا الأمة لعظم مكانتها عنده ودورها المؤثر ومن أجل تنفيذ العقد الذي بينه وبينها كخليفة أمين وليس مالكا للحكم، يقول في كتابٍ له إلى أهل مصر لمّا ولّى عليهم مالك بن الحارث الأشتر: «من عبدالله علي أمير المؤمنين إلى القوم الذين غضبوا لله حين عُصي في أرضه ...» (10).
وربما قدّم خطابه إلى الناس قبل الوالي في كتاب واحد موجه للطرفين، فيخاطب الإمام (رض) - مثلا - أهل مصر ثم محمد بن أبي بكر فيقول: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبدالله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى أهل مصر ومحمد بن أبي بكر، سلام عليكم...» (11).
وبينما يقرر الإمام (ع) قبل أربعة عشر قرنا أنّ الحاكم ليس سوى أمين وليس مالكا للحكم، نجد خلاف ذلك في القرون المتأخرة في أوروبا، حيث نشأت نهضة معادية للدين والكنيسة، وهي نهضة تتركز حول عبادة المادة.
ويرجع الشيخ مرتضى المطهري دوافع الاتجاه المادي الموجود حاليا في الغرب وأسبابه إلى ما قرره بعض الفلاسفة من الأوروبيين المسيحيين من العلاقة المفتعلة من حيث إقرار الدين للحكومات الاستبدادية وسلب الحقوق السياسية عن الناس. يقول: «إنه ظهرت في القرون الأخيرة من بعض علماء الغرب فكرة خطرة مضللة، لها نصيب كبير في دفع المجتمع البشري نحو المادية، وهي: أنهم قرروا بين الإيمان بالله من ناحية ونفي حق الحكم عن العموم من ناحية أخرى علاقة مختلفة! وافترضوا! أنّ المسئولية أمام الله تستلزم نفي المسئولية أمام الناس، وأنّ حق الله يعوض عن حق الناس» (12).
1. المعتزلي، ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج7، ص36.
2. المعتزلي، ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج2، ص200.
3.المعتزلي، ابن الحديد: شرح نهج البلاغة، ج14، ص35.
4. المرجع نفسه، ج16، ص93.
5. خزن المال: جعله في الخزانة، وخزن السر: كتمه، وخزان الرعية، حفظة أموالهم.
6. المراجع نفسه، ج17، ص19.
7. افتات بأمره. أي مضى عليه، ولم يستشر أحدا، واقتات عليه: إذا انفرد برأيه دونه في التصرف فيه (لسان العرب، ج2، ص69 -70).
8. المعتزلي، ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج2، ص185.
9. المرجع نفسه، ج16، ص166.
10. المرجع نفسه، ج16، 156.
11. الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن: الامآلي،ج1، ص24.
12. المرجع نفسه، ص 103.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1790 - الثلثاء 31 يوليو 2007م الموافق 16 رجب 1428هـ
علي
مافي معلومات
كثير