لم يعد سرا أن بند المعونة الاقتصادية والعسكرية، أصبح يشكل محورا للخلافات المتفاقمة بين مصر والولايات المتحدة الأميركية، خلافات تتصاعد ثم تهبط، وتمضي المتوالية فترة بعد فترة.
ولم يعد سرا أن أميركا أصبحت تجيد استخدام معوناتها السنوية لمصر، سلاحا للضغط والتطويع، ومصر تقاوم الضغط أحيانا، وتقبل التطويع أحيانا آخرى، لحاجتها الماسة لهذه المعونة، التي تدفع مقابلها على الدوام.
ولم يعد سرا أن السياسة الأميركية فرضت في السنوات الآخيرة على هيئة المعونة الأميركية، أساليب جديدة لتوزيع هذه المعونة خصوصا الاقتصادية، وفق أهداف تريد تحقيقها بشكل مباشر، بصرف النظر عن موافقة الدولة المصرية أو أعتراضها.
وهكذا صحونا قبل أيام على واقعتين منشورتين في الصحف، تصدمان أي ضمير وطني، تلعب فيهما المعونة الأميركية وأساليب صرفها وتوزيعها دورا، نراه تخريبيا من الدرجة الأولى، وتقوم علانية بزرع الفتنة وتأجيج الخلافات بين بعض المسلمين وبعض المسيحيين في مصر، وهو ما لا يجب السكوت عليه.
وبداية نعرف أن أزمة باتت معلنة بين القاهرة وواشنطن، بشأن تعليق مبلغ مئتي مليون دولار من المعونة العسكرية السنوية لمصر، حتى تستجيب مصر لشروط أميركية، أبرزها تنشيط محاربة الإرهاب، وإيقاف تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة، وضمان حرية واستقلال القضاء، وأظن أن الدولتين قادرتان على تسوية هذه الأزمة، مثلما فعلتا من قبل في أزمات آخرى، ما حافظ على حجم المعونة العسكرية بمقدار 1.3 مليار سنويا، بينما انخفضت المعونة الاقتصادية من نحو 815 مليونا في التسعينات إلى نحو 400 مليون الآن.
بينما الأمر على النقيض مع «إسرائيل»، أول وأكبر متلق للمعونات الأميركية في العالم، إذ تستحوذ حتى الآن على ثلاثة مليارات دولار سنويا، غير المساعدات والتبرعات الآخرى التي تصل بالمبلغ إلى عشرة مليارات على الأقل.
وإذا كانت هذه المعونات الأميركية، قد تقررت فهي جاءت نتيجة توقيع مصر لاتفاق كامب ديفيد، ثم معاهدة السلام مع «إسرائيل» العام 1979، والتزمت واشنطن بهذه المعونات دعما كما قالت للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط، غير أن مضي ثلاثين عاما إلا قليلا، صبغ هذه المعونات بألوان وشروط وضغوط على مصر، وبأخرى مناقضة لصالح «إسرائيل».
لقد استغلت هذه المعونة، لتحويل مصر إلى سوق استهلاكية كبرى، وإلى نموذج من الاقتصاد الحر الذي يستطيع أن يندمج في النظام الرأسمالي الذي تقوده أميركا، ويدور في فلك تبعيته، ولذلك استخدمت أميركا هذه المعونة لمساعدة فئات رأسمالية صاعدة في المجتمع المصري، ولتشجيع الدولة على سياسة الخصخصة وبيع القطاع العام وممتلكات الدولة وأصولها بأسم إعادة الهيكلة، الأمر الذي نشهد نتائجه الآن ممثلا في الأزمة الاقتصادية الاجتماعية التي تخنق المجتمع المصري، وتزيد من مساحات الفقر لحساب تركز الثروة والسلطة في أيدي قلة قليلة من الأفراد والشرائح وجماعات المصالح المرتبطة فكريا وأيديولوجيا وماليا بأميركا.
وعلى رغم أن دراسات موثقة تشير إلى أن 80 في المئة من القيمة المالية للمعونات، يعود سريعا إلى الاقتصاد الأميركي، عبر شراء سلع محددة ونقلها بوسائل أميركية، ثم عبر المرتبات الباهظة للخبراء الأميركيين، إلا أن ما تبقى أصبح يصرف على مشروعات محددة تختارها واشنطن، وتشرف عليها هيئة المعونة الأميركية بناسها وخبرائها المستوردين والمحليين، لتضمن نتائجها!
هنا تبدأ الواقعة الأولى، التي أشرنا إليها في مقدمة المقال، إذ نشرت صحف مصرية مختلفة يومي 21 يوليو/ تموز و23 يوليو 2007، أن هيئة المعونة الأميركية أعدت خطة عمل بعنوان «الاتصال والتواصل مع المجتمع» تتكون من 71 صفحة، وتهدف لتحقيق هدفين محددين، أولا مجابهة ومحاربة أعداء أميركا ومناهضي سياستها في المنطقة، وهم السياسيون والحزبيون والصحافيون والمثقفون المعادون، أما الهدف الثاني فهو العمل لتحسين وجه السياسة الأميركية بالتأثير على الرأي العام وترويج المشروعات التي تساهم فيها المعونة «لصالح الشعب المصري وخصوصا الفقراء»!
وتقترح الخطة أساليب متعددة لتحقيق هذين الهدفين، أهمها عقد اجتماعات دورية بين المسئولين الأميركيين ومسئولين وخبراء وصحافيين وأكاديميين مصريين مرة كل شهر على الأقل. «على غدا أو عشاء» لتصحيح أفكارهم وتحديث معلوماتهم عن فوائد المعونة الأميركية وضروراتها في إسعاد الشعب المصري وتحديثه.
وإدراكا من وشنطن لحجم الكراهية المتزايدة لسياساتها العدوانية والمنحازة، من جانب شعوبنا، فإنها بدأت هجوما مضادا لمحاربة كراهية سياستها، ولإعادة تحسين صورتها وتلميع وجهها، ولنا في تصريحات القيادات الأميركية، وفي دراسات منشورة كثيرة، الدليل الحي على ذلك.
لقد بدأت أميركا هجومها المضاد على الكراهية والكارهين، بحجة محاربة الإرهاب «الإسلامي» لكنها فشلت حتى الآن في حربي العراق وأفغانستان، فضلا عن الفشل الإسرائيلي التابع لها في فلسطين، لكنها الآن انتقلت إلى مرحلة جديدة من «حرب الأفكار» التي طالما رددها الرئيس بوش، وهي القائمة أولا على تسويق الديمقراطية الأميركية نموذجا يجب على شعوبنا تقليده والسير على قيمه وأفكاره.
لكن الجزء الثاني من حرب الأفكار هو الذي يجري الآن على قدم وساق، وتقوم فيه هيئة المعونة الأميركية وأموالها بالدور الرئيسي... ونعني الطرق بقوة المال والنفوذ والتأثير على المنظومة الثلاثية لصناعة العقل والفكر وتوجيه الرأي والاتجاه، وهي التعليم والإعلام والثقافة، والطرق هنا يعني اختراق هذه المنظومة درجة بعد درجة، لكي يتغير المضمون والمناهج والبرامج، ابتداء من التربية الوطنية والوعي التاريخي والمفهوم الوطني والقومي، وإنتهاء بتلقين العقول وتغذية الأفكار بأن أميركا هي التي تساعدنا، وأن القيم والمبادئ الأميركية هي صميم الديمقراطية ومحبة الشعوب، أما الحروب والكروب التي تحصد أرواح أشقائنا فهي ضرورة بيولوجيا لحماية هذه المبادئ السامية!.
ولم يكن غريبا أذا أن تركز هيئة المعونة الأميركية، على اختراق هذه المنظومة الثلاثية، أولا بحجة التطوير والتحديث «نموذج المناهج الدراسية المعلبة» وثانيا بإغراءات التمويل السخي لتحقيق هذا التطوير، بشرط أن يتم كل شيء تحت الإشراف الأميركي، وبخبراء أميركيين، أو محليين موالين.
في هذا الإطار لم يعد سرا أن أميركا قدمت 250 مليون دولار معونة لوزارة التعليم في إحدى دولنا لتطوير مناهج الدراسة على المقياس الأميركي، وبالشروط السابق ذكرها، فضلا عن تقديم كتب المناهج الجديدة هذه مطبوعة جاهزة، ولنا أن نتصور ماذا يمكن أن تتضمن هذه المناهج! ولم يعد خافيا على أحد حجم الاختراق الأميركي لمنظمات الثقافة والصحف ووسائل الإعلام المختلفة في بلادنا... باسم الصحافة الجديدة وباسم حرية الرأي تخترق المعونة الأميركية عقولنا وثقافتنا وصحافتنا جهارا ونهارا، ومثلما صار تلقى بعض منظمات حقوق الإنسان ودعم الديمقراطية، معونات أميركية وأوروبية علنا من دون خجل أو خوف أو حياء، صارت الصحف ودور النشر ووسائل الإعلام الحديثة الصدور تفعل الشيء نفسه.
وإذا كانت الصحف الكبرى والمؤسسات القومية، قد فتحت أبوابها من قبل، لأموال المعونة الأميركية، لتمويل مطبوعات متخصصة ولمساعدة مراكز الدراسات، ولتحديث المطابع، فإن الصحف الخاصة الجديدة المتكاثرة هذه الأيام، وجدت في ذلك مرشدا ودليلا، فسارت على المنوال نفسه، وقبلت، بل سعت للحصول على «شطيرة من الفطيرة» الأميركية، حتى لو تناقضت أهداف المعونة الأميركية وسياساتها مع مبادئها وسياساتها!
وإذا كانت بعض الصحف الجديدة التي تدعو للديمقراطية وتروج لليبرالية، ترى في الدعم الأميركي «الليبرالي» حقا لها، فإن المذهل أن بعض أهل اليسار وقدامى دعاة التقدمية، ساروا هم أيضا على المنوال نفسه... كلام كبير وشعارات براقة على الصفحات، وقبض الأموال المشبوهة من خلف الصفحات، وذلك أحد وجوه الأزمة، الذي يتطلب موقفا حازما من جانب الصحافة والصحافيين ونقابتهم.
أما الأزمة الأشد والأعنف، فهي تلك المتعلقة باختراق المعونة الأميركية للصف الوطني، واستخدامها في تأليب الشعور الطائفي والتفرقة صراحة بين المسلم والمسيحي في المجتمع المصري، الذي لا ينقصه التأليب والالتهاب.
وهذا هو محور حديثنا القادم بإذن الله من دون حرج واستنادا إلى وقائع!
خير الكلام: قال الشاعر:
وفي الصمت ستر للعيي وإنما
صحيفة لب المرء أن يتكلما
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1790 - الثلثاء 31 يوليو 2007م الموافق 16 رجب 1428هـ