خليج توبلي يحتضر! الخليج يختنق! الخليج العظيم؛ قلعة أشجار القرم الأخيرة يموت رويدا رويدا ومعه يموت موئل ليس له تمثيل آخر بطول سواحل البحرين وعرضها وبيئاتها البحرية. تلك البيئة الفريدة التي شهدت خلال 50 سنة مضت التقاء الماء العذب من عذاري (المحفورة في نفوسنا حتى العمق) بالماء المالح من خليج توبلي الذي مازالت آثار لقائه بعذاري في بعض المزارع القليلة المتبقية في منطقة عذاري، أشجار قرم صامدة بين أشجار اللوز والمشموم!
مؤسسات المجتمع المدني المؤسسة للتكتل البيئي كان لها محاولات عدة للدفاع عن خليج توبلي، فكان أن نظمت جمعية أصدقاء البيئة جولة بيئية للنواب عند إعلان تشكيل لجنة التحقيق النيابية في مخالفات خليج توبلي في 2005 بهدف تعريف النواب - الذين أوكل لهم أمر التحقيق - بالخليج ليروه عن قرب لأول مرة ويتعرفوا إلى جماله والحياة النابضة فيه فلا تخدعهم أي أقوال تدفع باتجاه أنه ميت ولا فائدة منه، وفي الوقت ذاته تعريفهم بالمعاناة الرهيبة التي يعانيها الخليج ومعنى «مياه الصرف الصحي» التي تصب فيه، و «الطمي» الناتج من مصانع غسيل الرمال، وعمليات الردم المستمرة فيه.
ثم كان للتكتل البيئي ولاسيما من خلال رئيس الجمعية الأهلية للهوايات البحرية غازي المرباطي ورئيس نقابة الصيادين حسين المغني تنظيم لجولات بيئية متتالية للإعلام والنواب والمهتمين كان آخرها الجولة البيئية الأخيرة التي شاركنا فيها ممثلون عن صحيفتين، وشهدها معنا ثمانية من أعضاء لجنة ريم الصغار (القادة البيئيون المستقبليون) بجمعية أصدقاء البيئة.
الممر الأول (ممر جسر المعامير): خلف جسر المعامير الذي يعترض التيار الخارج من خليج توبلي تبدو آثار الجسر القديم من خلال أنقاض لم تتم إزالتها، تشهد هذه الأنقاض على أن الممر القديم كان أوسعَ من الجديد وأن التجديد لم يأتِ لصالح تدفق المياه وتبادل التيارات في خليج توبلي.
الممر الجديد - بالنظر - يتضح مدى تأثيره السلبي على حركة المياه. يقول المغني: «إن توبلي كانت تشتهر بالروبيان وإن روبيان توبلي هو الذي يرفد مصائد الروبيان في جو وعسكر والمحرق وإن هذا الممر هو الذي يحدد كمية الروبيان التي تخرج من خليج توبلي لتواجه تحدي الجسر الثاني قبل انطلاقها إلى عسكر وجو والمحرق». ويضيف المغني «بعد بناء هذا الجسر تضررت مصائد الروبيان الأخرى في البحرين؛ لأن روبيان توبلي واجه عائقا في خط سيره يتمثل في الجسر».
الممر الثاني (ممر جسر ألبا): بعد أن يتخطى بعض روبيان توبلي العائق الأول فإنه يواجه عائقا جديدا يتمثل في جسر ألبا. وعلى غرار ألعاب الكمبيوتر فإن التحدي يزداد والصعوبة تتفاقم، بل إنها تصل هنا إلى درجة قريبة من الاستحالة إن لم تكن الاستحالة نفسها. ممرات ضيقة وعمق منخفض جدا للمياه قد يتدنى إلى القدمين (بل القدم الواحد بحسب توقعات المغني)!
أي روبيان يمكنه المرور من فتحات هذا الجسر؟ وخصوصا أننا نتحدث عن أعداد هائلة من أسراب الروبيان وهي تتحرك نحو البحر المفتوح باتجاه البحار المتعطشة لها والصيادين الذين ترتبط حياتهم بصيدها.
الممر الثاني بحاجة إلى وقفة مطولة أقدم لها هنا ببضعة أسطر: شكل الجسر وطوله وزاوية رسمه لا تتناسب مع الممر البحري الضيق الأقرب في منظره إلى المستنقع منه إلى ممر مائي يصل الخليج العظيم بالبحر. نظرة سريعة إليه وستدرك أن الروبيانة البطلة التي تستطيع الوصول منه إلى البحر ثم إلى عسكر وجو والمحرق يجب أن تسلم وسام الإنجاز المستحيل!
من الواضح أن المخطط الأساسي للجسر والممر المائي تم تغييره وتم دفن منطقة كبيرة منه. لماذا تم ذلك؟ ولمصلحة من؟ وهل من رقيب على ذلك؟ والسؤال الأهم هو: ما مدى جودة الماء في هذه المنطقة؟ هل الماء والتربة ملوثان؟ ما نوع التلوث المحتمل؟ من يجيب عن كل ذلك؟
أدعو كل من يريد - ويملك القرار بشأن - حل أزمة خليج توبلي إلى زيارة هذين الممرين، وأؤكد له أن التكتل بمنظمات مجتمع البحرين المدني المؤسسة له، على استعداد تام لتنظيم جولات استطلاعية لمن يريد التعرف إلى الممرين وفهم جانب مهم جدا من جوانب أزمة خليج توبلي.
لا أحب تَكرار ما أقوله في كل حين، ولكن عندما تكون هذه العبارات هي العبارات الوحيدة المنطقية فلا مناصَ لنا من تَكرارها علّها تسمع حيا يجيد الاستماع ويهدف إلى الوصول إلى حل حقيقي لأزمة حقيقية وجريمة مستمرة يساهم الكثيرون في زيادة حجمها وحدتها إما لجهل منهم وإما لأنانية لا تضع مصلحة الخليج أولوية في نظرتهم إليه.
خليج توبلي يحتضر!
والمشكلة لا تحتاج إلى فلسفة أو تنظير؛ خليج كل البحرينيين العظيم يختنق لأنه محمية لا تحمى! ما يحتاج إليه الخليج هو الإنقاذ، وهو حتما لا يحتاج إلى استثمارات مهما كان شكلها أو مسمياتها!
السؤال الذي نعيد طرحه على كل من يقول إنه سيحل أزمة الخليج هو عن توجهه: هل التوجه إلى حماية الخليج أم للدفع باتجاه موته سواء أكان ذلك بتسريع هذا الموت أم المماطلة والمراوغة حتى يتحقق المراد؟
لابد من تسمية جهة تعلن للملأ أنها مسئولة عنه وعن حمايته وترد بشجاعة وصدق وشفافية على كل أسئلتنا - واتهاماتنا أيضا - وتتخذ من خيرة خبرات البحرين بقطاعاتها الحكومية والخاصة والأهلية شركاء حقيقيين لها في إنقاذ الخليج بنية صادقة وآليات مدروسة مبنية على فهم علمي دقيق ومنطق واضح شفاف لواقع الخليج، تتدرج بين مخططات عاجلة لإنقاذ الخليج إلى مخططات طويلة الأمد لإعادة تأهيله. ولابد من وجود جهاز رقابي محايد يراعي مصالح البيئة ويتأكد أن عملية الإنعاش تتم بأفضل وأسرع آلية ممكنة وأكثرها كفاءة، وأنه يتم التصدي للمتلاعبين بمصير البيئة ومستقبل الأجيال القادمة، ولعله علينا التذكير بما قلناه منذ سنوات عن ضرورة وجود شرطة بيئية ومحكمة بيئية متخصصة وقوانينَ بيئية قوية ومفسرة لتتفرع منها آليات عمل وتعليمات واضحة لكل عامل في الشرطة البيئية وليشجع كل ذلك تقديم السند الدائم له من قِبل الرقابة الشعبية التي لا غنى لأي نظام عنها.
إلى أن يتحقق ذلك، لا نجد مناصا من أن نذكر أن خليج توبلي يحتضر. ما يحتاج إليه هو الإنعاش.
إقرأ أيضا لـ "خولة المهندي"العدد 1790 - الثلثاء 31 يوليو 2007م الموافق 16 رجب 1428هـ