تنشأ الحروب بين الحضارات، حسب صامويل هنتنغتون، بسبب الخلافات في الأسس التاريخية واللغة والثقافة والتقاليد والدين بين أمم العالم، والتي تشكل في نهاية المطاف النظرة العالمية المحددة لمجموعة معينة تجاه مجموعة أخرى. لقد جعلت العولمة العالم أصغر حجما وسمحت للبشر بالتلاقي مرات أكثر وزادت الوعي بالاختلافات وكذلك أوجه الشبه التي تفرّق الأعداء المحتملين عن الحلفاء.
إلا أن توقع هنتنغتون بحدوث صدام بين الحضارات يصعب تطبيقه في إندونيسيا التي طالما كانت ملتقى لأعظم حضارات العالم. كانت الثقافة الهندية أول تأثير أجنبي يتسرب عبر المنطقة لينشر الهندوسية والبوذية، تبعتها حضارات أخرى كالصينية والمسلمة، وفي النهاية الغرب المسيحي الذي أتت به الدول الاستعمارية مثل هولندا.
ومما يثير الاهتمام أن هذه الحضارات العظيمة اجتمعت وتلاقت مع بعضها بعضا بشكل سلمي فأنتجت ثقافة جماعية إندونيسية بشكل فريد. أما الحروب التي تلت فقد وجدت جذورها في القضايا السياسية والاقتصادية.
وتستمد قدرة الثقافة الإندونيسية على تشرّب الحضارات العالمية المتنوعة، بكلمات كليفورد غيرتز المتخصص الأميركي في علم السكان والذي قام بدراسة الديانات في إقليم جافا العام 1950، من وجود التقليد الأرواحي (حيوية المادة) المتفشي بين المجتمعات المحلية، الأمر الذي يسمح باجتماع عناصر حيوية المادة والهندوسية - البوذية والمسيحية، إضافة إلى العناصر المسلمة. هذه الطبيعة المرنة تمكنت من تدجين الطبيعة المتطرفة للثقافة الأجنبية. وحسب غيرتز فإن الإسلام في إقليم جافا بإندونيسيا هو دين دينامي متكيف متقبل وبراغماتي عملي بطيء الحركة.
ويمكن مشاهدة أمثلة على قدرة الثقافة الإندونيسية على التقبل في مسرحيات الدمى التقليدية المأخوذة في غالبيتها عن أشعار الملاحم الهندية مثل رامايانا ومهاباراتا، والتي تمت إعادة تغليفها وإغنائها بالتعاليم المسلمة من قبل والي سونغا (القادة الدينيون التسعة) الذين نشروا الإسلام في الأرخبيل في القرن السادس عشر. ومن خلال دمج الثقافتين نجد قصصا مثيرة للاهتمام تذهب إلى ما وراء النضال بين الخير والشر الذي كان يميز الأصل الهندي. وتصبح الرسائل الأخلاقية بشأن قضايا مثل العلاقة بين الفرد وربّه واضحة، خصوصا في حكاية بيما سوكي (بيما المقدس) التي تعكس التعاليم المسلمة حول التوحيد أو وحدة الفرد مع خالقه.
وفي محاولة رأب الخلافات بين التوحيد، وهو سيادة الله تعالى كجوهر الإسلام، والإشراك في الهندوسية الهندية، يعاد تفسير الآلهة في الثقافة الهندية على شكل الأسماء الكثيرة المختلفة لإله واحد أو كأرواح تختلف عن الملائكة أو أرواح الأجداد التي تقع تحت سيادة الله المطلقة. كما تم ربط الأنبياء العرب بالآلهة الهندوسية من خلال السلالة الأسطورية باعتبار كلتا المجموعتين من سلالة الابن الثالث لآدم وحواء (سيث). ويعتبر الآلهة في الثقافة الصوفية لإقليم جافا أحيانا قديسين. لذلك وحتى يتسنى دعم وضع الإله الواحد في الإسلام، تعتبر هذه المخلوقات الصوفية بأنها عاشت في مكان يمكن فيه للبشر أن يتواصلوا معهم ويطلبوا منهم المعونة في الواقع.
في العصر الحديث يمكن ملاحظة الانفتاح الجامع للثقافة الإندونيسية في حالة المحمدية وهي منظمة اجتماعية دينية أسسها أحمد دحلان العام 1912 في يوغياكارتا، وهي أصدق تجسيد لدمج الإسلام مع قيم الثقافة الغربية. وتحاول المحمدية جمع تعاليم القرآن وحديث النبي محمد (ص)، أي مجمل أقواله وأفعاله (السنة) والتي تشكل المصدر الرئيسي للإرشاد بعد القرآن الكريم، لعالم اليوم.
وقد تأثرت حركة المحمدية بشكل واسع بالحركة التبشيرية الكاثوليكية المسيحية، التي أنشأت مدارس تعليمية على الأسلوب الغربي، لتدريس العلوم العامة واللغات وخصوصا الهولندية والإنجليزية والعربية، وقامت بتأسيس مستشفيات وغيرها من المؤسسات الاجتماعية. واشتهرت المحمدية كذلك بتأكيدها على العقلانية وابتعادها عن التقليدية ومعارضتها لمبدأ عبادة الفرد التي سيطرت على المنظمات الدينية الأكثر تقليدية، إضافة إلى ذلك، تشارك المحمدية في مبدأ أخلاقيات العمل البروتستانتية لأوروبا الغربية والولايات المتحدة، وهي القوة المحركة الرئيسية وراء الاقتصاد والتعاونيات التي يملكها الموظفون في إقليم جافا الشمالية وخصوصا في صناعة الباتيك (الرسم التقليدي في جافا).
تملك الحضارات العالمية إمكانات تحقيق تجميع ابتكاري للثقافات مثل تلك الموجودة في إندونيسيا. يجب علينا أن ننظر إلى مستقبل العلاقات الإنسانية عبر هذا الموقف.
*كاتب مقيم في جاكرتا، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1790 - الثلثاء 31 يوليو 2007م الموافق 16 رجب 1428هـ