العدد 1789 - الإثنين 30 يوليو 2007م الموافق 15 رجب 1428هـ

القراءة المتناقضة لنتائج الانتخابات التركية

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

منذ أسبوع أو أكثر بعد ظهور النتائج النهائية للانتخابات التركية تناول الكتاب العرب الظاهرة بتوسع من منظورين متعارضين، الأول يقول ما معناه أن (الإسلام السياسي) يكسب الساحة الشعبية عن طريق الانتخابات، ويستطيع أن يقدم نموذجا ناجحا للحكم في هذا العصر، والآخر يرى أن ما يجري في تركيا ليس (إسلام سياسي) بقدر ما هو اقتصاد سياسي، استطاع حزب العدالة والتنمية إقناع الناخب التركي بما حقق من استقرار سياسي وتقدم اقتصادي. بالطبع كلا المنظورين يريد في واقع الأمر أن يدافع عن فكرة أو ينقد الفكرة المضادة، ويقدم تفسيرا لها من خارجها. وهي محاولة لِليّ الحقائق أكثر من تفسيرها بحيادية.

في الحقيقة، المحاولتان كلاهما خارج السياق، لسببين أساسيين أولهما وأضعفهما هو القراءة الأيديولوجية لما تم في تركيا، وثانيهما وهو الأهم، عدم الاعتراف بما أصبح يسمى بين المتخصصين (الدوائر الحضارية للمسلمين). تقول هذه المدرسة إن الإسلام دين وحضارة، متعدد، وينقسم إلى دوائر حضارية فرعية لكل دائرة خصوصيات لا تملكها الدائرة الأخرى، تلك الدوائر تفهم الإسلام وتمارسه على نحو يظهر فهمها من جهة، ومن جهة أخرى تأثير الممارسة بالبيئة المحيطة، فهناك الإسلام الاندونيسي مثلا الذي يمارس طقوسا بها بعض التلون البوذي واضحة، وهناك الإسلام الإفريقي الذي يمارس بعض الطقوس ذات التلون الوثني. لقد تعرض لمثل هذا الأمر الدارسون في أكثر من مصنف معروف، وهو قول لا يخدش وحدة العقيدة بأكثر مما يعرض لاختلاف الممارسة، وقد قال الأولون أن هناك فروقا بين (الملل) الأديان، وفروقا بين (النحل) في الدين الواحد.

إذ إن ما نحن بصدده، هو محاولة تفسير الظاهرة التركية في محيطها الحضاري بعيدا عن التعميمات.

حتى تتضح الصورة دعونا نقارن حدثين، ففي الأسبوع نفسه الذي كان يشهد فيه العالم معركة دموية بشعة في المسجد الأحمر في إسلام آباد، باكستان، على خلفية فهم بعض المسلمين للإسلام بممارساته وطقوسه وانعكاسه على المجتمع، مارس المجتمع التركي المسلم حل خلافاته السياسية من خلال صناديق الانتخاب. وفي الوقت نفسه الذي يشاهد العالم نساء المسجد الأحمر منقبات لا يظهر منهم أي طرف يجادلون خلف حجاب كثيف وسائط الإعلام، نرى أن ابنة رئيس الوزراء التركي وهي محجبة لا تدخل المؤسسات التعليمية في بلادها بسبب قانون منع الطالبات من ارتياد المؤسسات التعليمة بحجابهن، ويرسلها والدها، رجب طيب اردوغان إلى الولايات المتحدة، كي تتمكن من الاثنين، التعليم ولبس الحجاب في الوقت نفسه. وهناك في الولايات المتحدة يقرر تسع وستون في المئة من الجسم الطلابي أن لا مانع لديهم من ارتداء الحجاب (بحسب استطلاع نشرته مجلة «نيوزويك») ذلك في الوقت الذي يقرر فيه زعماء المسجد الأحمر في إسلام آباد أن رئيس الجمهورية الباكستانية برويز مشرف خارج على التعاليم الإسلامية - كما يفهموها - يقرر زعيم حزب العدالة والتنمية مباشرة بعد انتخاب حزبه، إعلان احترام الممارسات العلمانية التي يقرها الدستور التركي ويحترمها الشعب.

إذا لم تتضح هذه المقارنة في تعدد الدوائر الحضارية للممارسة الإسلامية فإن ما يجعلها غير واضحة للبعض الرغبة الكلية لدى هذا البعض في فرض التماثل أولا وثانيا الرغبة الملحة لدى هذا البعض أيضا في أن يكونوا هم فقط لا غيرهم (مراجع الفتوى للأمة) وهو أمر يكاد يكون متنافيا مع العقل السليم.

الأمة الإسلامية اليوم تتكون من عدد من الألسن والثقافات المختلطة، كما أن نموها السكاني بالغ السرعة، فقد كان عدد المسلمين منذ أربعة عقود تقريبا أي سنة (1970) يقارب الستمئة مليون نسمة، واليوم يقدر عدد المسلمين بنحو مليار وثلاثة مئة مليون نسمة، يضاهي تقريبا عدد سكان الصين. ومعتنقو الإسلام ألوان وأقوام وألسن، يتوزعون على معظم قارات العالم، بين الأتراك والأفارقة والعرب والهنود والصينيون، لذلك فان كثيرا من الدراسات أصبحت تعتمد على التقسيم الحضاري لمعتنقي الإسلام، لفهم أعمق لسلوكيات البعض، والتفرقة بين العقيدة والممارسة. هناك الإسلام العربي والتركي والفارسي والأسود، أخيرا الإسلام الأوروبي والأميركي، وكل هذه الدوائر الحضارية لها من الجذور التاريخية والاجتماعية والاقتصادية ما يميزها قليلا أو كثيرا عن بعضها في الفهم والممارسة.

هنا لابد من التفرقة بين الدين كعقيدة ثابتة، وبين التدين، والأخير ظاهرة اجتماعية يُلبسها المجتمع ما تعارف عليه من سلوك و نظام عمل وطريقة حياة، أي بالشخصية الثقافية للمجتمع نفسه.

هنا يأتي أمر تفسير الظاهرة التركية، وهي في جوهرها لا يمكن أن تتكرر في أماكن أخرى، إلا إذا صادفت تلك الأمكنة أو الشعوب الظروف نفسها التي صادفتها تركيا. ربما يجهل البعض أن هناك حزبا في تركيا يدعو إلى (إسلام سياسي مباشر) وهو حزب أربكان، الذي لم يوفق في الانتخابات الأخيرة، كما أن حزب العدالة والتنمية رشح نساء فازوا في الانتخابات يؤمنون بأطروحاته السياسية والاجتماعية ولكن لا يشاركونه نظرته الاجتماعية.

تركيا قريبة من أوروبا وتطمح، وهو طموح طبيعي ومشروع، أن تشارك أوروبا الموحدة في قفزتها الاقتصادية الكبرى التي حققتها في ربع القرن الأخير، ولكل عاقل، تركي أو خلافه، فإن ذلك الطموح يستحق الكثير من العمل الجاد، وهذا ما فعله حزب العدالة والتنمية. حتى اسم الحزب، كما نلاحظ ليس له علاقة بـ (التدين) أكثر ماله علاقة بالمبادئ (الإنسانية) بمعناها الواسع.

الجدل الدائر بين الكثير من الكتاب العرب وهو جدل حول كسب التجربة التركية إما إلى (الإسلام السياسي) أو (الليبرالية) جدل عقيم، ونقص في فهم وتفسير الظواهر السياسية.

فيستطيع (الإسلاميون) العرب أن يقدموا تجربة ناضجة إن هم تفهموا ماذا يعني (الإسلام الحضاري) الذي يعتني بالإنسان في حاجاته الطبيعية والمعيشية مع تفهم كامل للعصر الذي يعيشه، كما يستطيع الليبراليون العرب، إن كان ثمة مجموعة بهذا الاسم، أن ينقلوا مجتمعهم إلى الأفضل، متى ما تفهموا الحاجات الروحية لهذه المجتمعات. وغني عن البيان أن قبول (النسبية) هنا و(التلاؤم) مع إحداثيات الزمان والمكان والضرورة، هي من الشروط المسبقة لنجاح وقبول الجمهور العربي لمشروع كهذا.

هنا يكمن صلب تفسير الظاهرة التركية لا في غيره.

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1789 - الإثنين 30 يوليو 2007م الموافق 15 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً