من أجمل القصص المؤثرة التي سمعتها عدة مرات من جدتي (رحمها الله) ، حدثت قديما في إحدى القرى بمنطقة الخليج. ذهب أحدهم بمالٍ إلى عالم دين، ليرشده إلى محتاج، فقال له: «اجلس فجرا على قارعة الطريق، واعطه لأول عابر سبيل». وفي الفجر، كان أول عابر سبيل فارسا ملثما، يبدو عليه سيماء الغنى، فأحجم عن مساعدته، وتكرّر الجلوس والإحجام ثانية وثالثة. وفي اليوم الرابع، حمله الفضول على متابعة الفارس، فاكتشف أنه ينتهي إلى مكان لجمع مخلفات البيوت في أقصى أطراف القرية، فينزل عن فرسه متلفتا يمينا وشمالا، فإذا أحسّ بالأمان من العيون أخذ بالبحث بين القمامة، فإذا وجد دجاجة ميتة خبّأها تحت عباءته ومضى. وتتبّعه فاكتشف أنه عاد إلى بيت قديم كالقلعة ليُطعم عياله الجياع. وفي اليوم التالي، انتظره على قارعة الطريق وأعطاه المال، بعد أن اطمأن إلى فقر الفارس النبيل.
أما زميلنا المصوّر بـ «الوسط» فكان شاهدا على قصة أخرى، إذ لفت نظره منظر عجوز بحرينية في إحدى القرى الشمالية، فبعث رسالة بالبريد الإلكتروني تضمنت خمس صور (نشرت أمس بـ«الوسط»)، وكتب موضّحا: «لفتت نظري هذه المرأة فأخذت أراقب أفعالها لمدة نصف ساعة وهي تتلفت يمينا ويسارا، لكي لا يراها أحد وهي تبحث عن مخلفات المشروبات الغازية في أكوام القمامة. نظرت إليها والتقطت هذه الصور وأنا أجهش بالبكاء».
زميلنا وهو يشاهد المرأة تخفي العلب المعدنية تحت عباءتها، سأل نفسه: «هل سنصل إلى هذه الحالة يوما؟ سؤال يفرض نفسه عليّ دوما عندما أفكّر في أسرتي».
الصور الحزينة التقطت من الخلف يوم الجمعة قبل الماضي، وعند التدقيق ستكتشف أن أشعة الشمس كانت عمودية، ما يشير إلى أنه وقت الظهيرة. بمعنى آخر، اختارت المرأة هذا الوقت الذي تخلو فيه الشوارع من المارة، لتوجّه الناس للمساجد والجوامع لأداء صلاة الجمعة، فيما تتأهب غالبية الأسر للاجتماع الأسبوعي في البيت (العود) للعائلة.
في اثنتين من الصور، تحمل المرأة المتلببة بالسواد عصا تنبش بها الحاويات الفائضة بأكياس القمامة، وفي الصورة الأخيرة تبدو يدٌ معروقة تلمع في الشمس من بعيد. هذه اللقطات الخمس التي لم يستغرق شرحها ثلاث فقرات، استغرقت من المصوّر نصف ساعة وهو يتحين الفرصة لالتقاطها. قد تكون المرأة من النوع المتعفّف، الذي يرفض استلام المعونات حتى من المؤسسات الخيرية المتخصصة، وقد تكون تتلقى المعونة لكنها لا تسد حاجتها، ولكنها في الحالين تظل مشكلة مؤرقة للضمير.
قصة هذه الفارسة البحرينية النبيلة حجةٌ علينا نحن الذين نكتب عن الديمقراطية والإصلاح والعدل وحقوق الإنسان. إنها حجةٌ على المثقفين الذين يتلهون بربيع الثقافة فيقيمون الدنيا انتصارا لـ «مجنون ليلى» وغيره من المجانين. إنها حجةٌ على من يتكلّم عن مشروعات تمكين المرأة وتعيين الشوريات. إنها حجةٌ على كل كتّاب «الأنا»، الذين حوّلوا القلم إلى رقّاصة تلمّع الأحذية، وتزيّن ما لا يزين، من أصحاب الأفكار المسلوقة والفلسفات التافهة التي تبرّر لهم ابتلاع السحت والمال الحرام. إنها حجة على المرابين و«سماسرة الافتتاحيات» الذين ينتقدون «الإذاعات الأجنبية» لنشرها تقارير عن الوجه الآخر القبيح المخجل من البحرين، ولم تتكلم عن هذا الازدهار العمراني العظيم!
إنها حجةٌ علينا وعليكم... ودليل إدانةٍ لنا ولكم، ولا أستثني أحدا، من كتّاب ومثقفين ونواب وشوريين ووزراء وتجار وسماسرة ووزارة تنمية ومجلس أعلى للمرأة... فكلنا شركاء في قصة الفارسة البحرينية... وجناحها المهيض.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1789 - الإثنين 30 يوليو 2007م الموافق 15 رجب 1428هـ