العدد 1788 - الأحد 29 يوليو 2007م الموافق 14 رجب 1428هـ

الانقسام اللبناني بين انقسامين

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

المعركة الانتخابية الفرعية اللبنانية التي يتوقع أن تجري في دائرتين في 5 أغسطس/ آب المقبل فتحت باب النقاش على قضايا سياسية عامّة تتصل باستحقاقات محلية وإقليمية تعكس تحالفات طائفية ومذهبية على امتداد الساحة من شمالها إلى جنوبها. فالمعركة الفرعية أعادت طرح أسئلة مركزية بشأن استقرار الكيان وهويته وتوازناته. كذلك زعزعت الكثير من النظريات السياسية المتعلقة بقانون الانتخابات وتوزيع المقاعد وحصص الطوائف والرقع الجغرافية للدوائر ووزن الكتل التصويتية في كلّ منطقة.

في الانتخابات العامّة الأخيرة التي جرت في العام 2005 حصلت اعتراضات كثيرة من الكتل السياسية على القانون. فالبعض طالب أن يكون لبنان كلّه دائرة واحدة. والبعض طالب بالنظام النسبي واللوائح الحزبية. والبعض طالب بأن تعتمد المحافظة قاعدة جغرافية للدائرة الواحدة. والبعض طالب بالقضاء. والبعض بالدائرة الصغيرة (مرشح واحد لصوت واحد). وهكذا إلى أن بلغت الاقتراحات البديلة للقانون المعتمد أكثر من 24 مشروعا.

الآنَ أعيد النقاش مجددا بالقانون في اعتبار أن معظم الكتل ترى أن النظام الانتخابي الحالي ليس عادلا ولا يعكس فعلا التوازن الديموغرافي (السكاني) لتوزيع الحصص الطائفية. ولكن النقاش الحالي أضاف مجموعة ملاحظات على تلك الاعتراضات التي كانت متداولة سابقا. فالانتخابات الحالية فرعية وليست عامّة وهي تحصل في دائرتين واحدة للسنة وأخرى للموارنة ومع ذلك ولّدت المعركة سلسلة نقاشات تجاوزت في حرارتها السقف السياسي المتعارف عليها بين الكتل الانتخابية.

في الانتخابات العامّة الأخيرة طرحت مسألة المسلم والمسيحي. فهناك مَنْ قال إنه لا يجوز للمسلم أن يقرر مصير المقعد المخصص للمسيحي. كذلك لا يجوز في المقابل أن يقرر المسيحي المقعد المخصص للمسلم. واقترح هذا البعض أن يتم تعديل مواقع المقاعد واستبدالها أو نقلها من مكان إلى آخر حتى ينتخب المسيحي المترشح المسيحي عن المقعد المسيحي وبالتالي أن ينتخب المسلم المترشح المسلم عن المقعد المسلم.

شكلت هذه الاقتراحات قناعات ثابتة وأدت إلى استفزاز المشاعر الطائفية وزادت من درجة التوتر المذهبي والاستقطاب السياسي فدخلت القوى في مشاحنات ولّدت قراءات غير دقيقة لتعقيدات الواقع اللبناني وتداخلاته المذهبية والطائفية. فلبنان المنقسم إلى كتلتين دينيتين على مستوى الدستور وتوزيع الحصص والمناصب هو غير لبنان المنتشر سكّانيا في مختلف المناطق والدوائر. والتعادل المتوافق عليه في النص الدستوري بين الكتلتين الدينيتين هو غير ذلك في الواقع الميداني لسبب واضح وهو أن نسبة المسلمين أكثر من المسيحيين وبالتالي فإن الكتلة التصويتية للمسلمين لابدّ لها أن تغلب كفة هذا الطرف على ذاك وتلعب دورها في ترجيح هذا المترشح المسيحي على غيره.

هذه المعادلة النسبية كان من الصعب تعديلها قبل سنتين مادامت القوى اللبنانية توافقت على توقيع عقد مدني (دستوري) ينص على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين. كذلك كان من الصعب إعادة توزيع المقاعد مناطقيا ونقل مقعد المسلم إلى دوائر المسلمين مقابل نقل مقعد المسيحي الى دوائر المسيحيين. والصعوبة هذه فرضها التوزع الجغرافي للمسلمين والمسيحيين وعدم وجود مناطق صافية مسيحية من دون مسلمين أو مناطق صافية مسلمة من دون مسيحيين إلا في سبعة أو ثمانية أقضية فقط.

تعقيدات وثنائيات

باستثناء هذه الأقضية كلّ الدوائر الانتخابية في لبنان مختلطة من دون أن يمنع الاختلاط وجود كتلة طائفية أو مذهبية تشكّل غالبية تصويتية ترجّح هذا الطرف ضد ذاك. ففي البقاع الشمالي مثلا هناك مقعد للسنة ومقعد للموارنة ولكن الغالبية في الدائرة للشيعة. وفي عكّار هناك مقاعد للموارنة والأرثوذكس ولكن الغالبية في الدائرة للسنة. وفي جبيل هناك مقعد للشيعة ولكن الغالبية في الدائرة للموارنة. وهكذا في كلّ الدوائر باستثناء سبعة أو ثمانية أقضية.

هذا التعقيد في الواقع الطائفي/ المذهبي/ المناطقي في لبنان عطل على رجال القانون إمكانات التوصّل إلى مشروع انتخابي مثالي في عدالته يعكس بدقة متناهية رغبات الكتلة التصويتية في هذه الدائرة أو تلك. وأدى التداخل الغريب من نوعه (18 طائفة) إلى فشل القوى السياسية البرلمانية في إخراج مشروع قانون يلبي أهواء المناطق والطوائف والمذاهب. فكلّ فكرة كانت تعارضها مجموعة أفكار، الأمر الذي أدى برئيس اللجنة المكلفة بصوغ مشروع انتخابي جديد (وزير الخارجية السابق فؤاد بطرس) إلى تقديم اقتراحات دستورية خلطت النسبي بالاكثري والدائرة الصغرى بالمتوسطة وهو ما رفضت الفرق والملل والنحل الأخذ به حتى الآن.

المسألة إذا في أساسها معقدة ومختلطة في نسبها وتوازناتها وتداخلاتها الديمغرافية. وبسبب هذا التعقيد والاختلاط ولّدت الانتخابات الأخيرة استقطابات سياسية/ أهلية كادت أن تقوّض بالكثير من التفاهمات الدستورية والتعاقدات المدنية والتوافقية على «ديمقراطية» العيش المشترك.

الآنَ وفي مناسبة الانتخابات الفرعية في دائرة المتن الشمالي (المسيحية) ودائرة بيروت الثانية (المسلمة) برزت تعقيدات إضافية زادت من إشكالات الديمقراطية اللبنانية التوافقية. ففي المتن المقعد للموارنة كما ينصّ قانون الحصص الطائفي ولكن الدائرة الانتخابية تضم مجموعات مسيحية غير مارونية تملك كتلة تصويتية ترجّح قوة هذا المترشح على ذاك. وفي دائرة بيروت الثانية المقعد مخصص للسنة كما ينص قانون الحصص الطائفي ولكن الدائرة تضم مجموعة شيعية وأخرى أرثوذكسية تملكان نسبة تصويتية ترجّح هذا المترشح على ذاك.

المسألة إذا في غاية التعقيد. والمشكلة ليست فقط في توزع المقاعد بين المسلمين والمسيحيين وإنما في وجود تكتلات تصويتية متنوعة في كل دائرة. ففي مناطق الموارنة توجد أقليات مسيحية غير مارونية ترجّح هذا المترشح ضد ذاك. وفي مناطق السنة توجد أقليات مسلمة غير سنية مضافا إليها أقليات مسيحية. وعلى القياس نفسه يمكن مقارنة الكثير من الدوائر الشيعية التي يوجد فيها أقليات سنية ومسيحية أو الدوائر الأرثوذكسية التي يوجد فيها أقليات مارونية، وهكذا. الانقسام العام يقع بين انقسامين خاصين. وكل انقسام خاص يتفرع إلى انقسامات لا نهاية لها.

المعركة الفرعية في المتن وكذلك في الدائرة الثانية في بيروت كشفت عن زوايا كثيرة تدل على صعوبة التوصّل إلى قانون انتخابي يمكن تفصيله بدقة على مقاسات واقع لبناني متداخل ومتشابك في معظم الأقضية. فالانقسام الذي كشفته المعركة الفرعية في المتن وبيروت أظهر تلاوين طائفية ومذهبية في كلّ الدوائر لا تقتصر على الثنائية بين المسلم والمسيحي. فهناك كما تبين ميدانيا وجود ثنائيات وأقليات في دوائر المسلمين مقابل ثنائيات وأقليات في دوائر المسيحيين. في المتن الشمالي هناك أرمن وأرثوذكس وفي بيروت هناك شيعة وأرثوذكس. وهذا يعني أن المقعد المخصص لهذه الطائفة أو تلك ليس بالضرورة تقرره أصوات الطائفة بعينها.

تشكل معركة المتن - بيروت الفرعية مناسبة لإعادة قراءة الواقع اللبناني وربما تشجّع القوى السياسية الفاعلة على الأرض التفكير مجددا بدراسة الانقسامات الأهلية وخطورة التلاعب بها أو اللعب عليها. فالانقسام العام بين المسلمين والمسيحيين لا يكفي لقراءة قانون الانتخابات وكيفية توزيع الحصص والمقاعد. فهذه الثنائية ليست الطرف الوحيد الذي يحرّك المعادلة اللبنانية. فهناك إلى جانب هذه الثنائية الظاهرة عشرات الانقسامات والثنائيات الخفية التي تقف إلى جوارها حينا وتحتها حينا وضدها أحيانا.

معركة المتن - بيروت الفرعية كشفت الكثير من الثغرات ولكنها أيضا أرسلت إشارات سلبية وأوضحت للقوى الفاعلة أن حساسيات الطوائف والمذاهب خطرة جدا، وأخطر ما فيها أنه لا يجوز المساس بها حتى لا تنقلب على أصحابها.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1788 - الأحد 29 يوليو 2007م الموافق 14 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً