ماذا وراء الحملة التي تشنّها بعض الأقلام في الصحافة الأميركية والأوروبية ضد دول الخليج العربية والمملكة العربية السعودية؟ يمكن قراءة الحملة على أكثر من مستوى. فهناك وجهة نظر إدارة واشنطن التي ترى فيها مجرد آراء صحافيين لا تعكس بالضرورة مواقف رسمية. وهناك رأي يقول إنها إشارات للضغط على دول الخليج للابتزاز السياسي تمهيدا لتمرير صفقات أسلحة ومشروعات اقتصادية تشرف على إدارتها شركات أميركية. وهناك مَنْ يقول إنها بداية في تغيير قواعد اللعبة الدولية ربما تؤدي في حال استمرارها إلى خلط الأوراق وتشكيل جدول أولويات مغاير للسياسة التقليدية الأميركية. وهناك مَنْ يضع المسألة في هامش ضيّق ومجرد سحابة صيف ستعبر الأجواء بعد اتضاح الرؤية أو ما تسميه واشنطن «خيبة أمل».
«خيبة الأمل» كان العنوان التي ظهر تحته ذاك المقال الذي نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» في عددها الصادر يوم الجمعة الماضي وأثار ضجة سياسية اضطرت على إثرها متحدّثة باسم البيت الأبيض إلى شرح الملابسات والتأكيد على متانة العلاقات الأميركية - السعودية واشتراك الدولتين في مجال «مكافحة الإرهاب». المتحدّثة دانا بيرنو لم ترد على مقال الصحيفة الأولى في أميركا مباشرة وتجنبت ذكر تلك المعلومات التي نسبها المقال إلى مصادر في الإدارة فضّلت عدم الكشف عن هويتها. وتجنب المتحدّثة في تأكيد أو نفي تلك المعلومات بالإشارة إلى عمق العلاقات الثنائية وقوتها يعتبر محاولة للتهرّب أو تجاهل ما ورد من نقاط اتهامية في المقال وترك المسألة عرضة للتأويلات والتفسيرات.
مقال «نيويورك تايمز» ليس الوحيد الذي نُشِر في السياق المذكور ولكنه الأوضح والأقوى من ضمن عشرات وربما مئات التعليقات التي دأبت الصحف الأميركية والأوروبية على نشرها في الأشهر الأخيرة من السنة الجارية. وهذا ليس مصادفة أو مجرد توارد أفكار تستقي معلوماتها من مصادر متشابهة وإنّّما تدل على وجود توجيهات بشن حملة منظمة على السعودية ودول الخليج. الحملة مركّزة وتبدوغيرعفوية وهي تشبه تلك التي انطلقت بعد هجمات سبتمبر/ أيلول 2001 وتذرعت بوجود متهمين بتنفيذ العمليات يحملون جنسية سعودية.
بالعودة إلى «نيويورك تايمز» أورد مقالها مجموعة نقاط اتهامية تحت بند «خيبة أمل». وتركّزت مختلف الأسهم على هدف يوحّد كل الملاحظات السلبية وهو «العراق». فالانزعاج (الخيبة الأميركية) تركّز على موقف الرياض من موضوع الاحتلال الأميركي والخطاب الذي ألقاه خادم الحرمين بمناسبة انعقاد القمّة العربية. مصدر الخيبة إذا محدد والهدف من الحملة الإعلامية يتركّز على نقطة أساسية ومنها تتفرّع كلّ الاتهامات الأخرى.
ماذا يريد أن يقول مقال «نيويورك تايمز»؟ إن واشنطن مستغربة موقف الرياض من الاحتلال. فالعلاقات التقليدية بين العاصمتين متينة وقوية وأميركا كانت تتوقع من الحكومة السعودية الدعم المطلق والمفتوح ومن دون شروط لما جرى ويجري في العراق. ولكنها اندهشت من مواقف السعودية النقدية والمعترضة على الاحتلال أصلا ، وما أعقبه من تداعيات سلبية قوّضت الدولة ودفعت بالعلاقات الأهلية إلى التفكك والانهيار وربما تقسيم بلاد الرافدين إلى فيدراليات طوائف.
انطلاقا من «خيبة الأمل» هذه وهي تشكّل في المقال نقطة مركّزية وتمهيدية للدخول إلى مجموعة ملاحظات خطيرة؛ لأنها تتهم المملكة العربية السعودية بالمسئولية والوقوف وراء فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه.
تحميل الرياض مسئولية فشل الإدارة الأميركية في تمرير مشروعها يعتبر الهدف المباشر من وراء كتابة المقال وغيره من عشرات وربما مئات التعليقات والانتقادات التي نُشرت تباعا وأحيانا يوميا ضد سياسة المملكة السعودية.
فكرة الفشل وتحميل الآخر (دول الجوار) مسئولية انهيار المشروع الأميركي في العراق ليست جديدة. فواشنطن تبحث كل سنة عن طرف تحمّله مسئولية انسداد آفاق النجاح في بلاد الرافدين. فهي بداية اتهمت سورية وإيران، ثم انتقلت إلى الأردن وسورية، ثم الأردن والسعودية، ثم اتهمت شبكة أخطبوطية من رجال المال والأعمال والمصارف والجمعيات الخيرية، ثم اتهمت «القاعدة» وشبكاتها المرئية وغير المرئية بانها تسللت إلى العراق وأسست فروعها هناك.
اتهامات جاهزة
الاتهامات جاهزة وليست جديدة وهي وسيلة من وسائل التهرّب من المسئولية المباشرة ومحاولة لصقها بالقوى الدولية والإقليمية والجوارية التي نصحت وتمنت على إدارة جورج بوش عدم ارتكاب خطأ إعلان الحرب على العراق واحتلاله. فالمسئولية تبدأ قبل الدخول في هذه المغامرة السياسية التي أودت إلى نتائج كارثية سيكون لها انعكاساتها السلبية على دول المنطقة أكثر من الأضرار التي ستلحق بالولايات المتحدة ومصالحها.
نعود إلى مقال «نيويورك تايمز». المقال لا يكتفي بهذا الحد من التهرّب من المسئولية الأميركية في إغراق المنطقة العربية بهذه الكارثة السياسية والأهلية وإنما يذهب إلى اتهام الرياض بانها تنتهج خطوات عملية تتعارض مع مصالح الإدارة وسلوكها العام. وتحدد الصحيفة، استنادا إلى معلومات استقتها أو سربتها مصادر في الإدارة رفضت الكشف عن هويتها، الخلاف على نقطتين مهمتين: الأولى رفض العاصمة السعودية الاعتراف بحكومة نوري المالكي بذريعة أنها عميلة أو تابعة للسياسة الإيرانية. الثانية عدم تعاون الرياض أمنيا من ناحيتي ضبط الحدود ومنع انتقال المقاتلين إلى بغداد وماليا من ناحية التساهل في عدم مراقبة التحويلات المالية لمساعدة العشائر وبعض الاتجاهات السياسية.
المقال واضح في ملاحظاته العاتبة على نَهْج حكومة الرياض. فهو بكل بساطة يطالب المملكة السعودية بالنقاط الآتية: الاعتراف بالاحتلال، مساعدة واشنطن على نجاح مشروعها، دعم حكومة نوري المالكي، والدخول مع الولايات المتحدة في خطة عمل أمنية وميدانية مشتركة.
«خيبة الأمل» محددة في برنامج متكامل وهذا ما تجاهلته المتحدّثة باسم «البيت الأبيض» حين تهرّبت من الإجابة الصريحة وذهبت إلى تأكيد الثوابت في العلاقات الثنائية التي يرجح أن تأتي على ذكرها وزيرة الخارجية الأميركية خلال زيارتها المتوقعة برفقه وزير الدفاع إلى الرياض في الأسبوع المقبل. و»الخيبة» التي تحدّث عنها المقال تشير إلى عتب من واشنطن تلخصه الصحيفة، نقلا عن مصادر مجهولة الهوية، بنقطة سياسية مباشرة وهي: أن الرئيس جورج بوش يخوض جولته الأخيرة في العراق وقد راهن أو رهن مستقبل الحزب الجمهوري على مدى نجاح خطته الأمنية بالتعاون والتكافل مع حكومة المالكي وجاءت الصدمة من المكان غير المتوقع. فواشنطن راهنت على دعم الرياض وإذا بالمساعدة تأتيها من دمشق وطهران.
النقطة الأخيرة تلقي الضوء على الكثير من الجوانب الخفية من موضوع «خيبة الأمل» وهي ربما تفتح الباب أمام قراءات أوسع من دائرة العراق. فالانزعاج كما يبدو يطاول أكثر من ملف. فهناك مثلا موضوع إعادة تأكيد وتجديد المبادرة العربية في الرياض التي أطلقت في العام 2002 في بيروت ورفضتها آنذاك واشنطن ثم عادت وجددت رفضها لها بالتوافق مع تل أبيب. وهناك أيضا موضوع «تفاهم مكة» بين فتح وحماس وأعلنت واشنطن (وأيضا تل أبيب) رفضها له. وهناك مسألة العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان في الصيف الماضي الذي استهدف أيضا تحطيم المشروع العربي (اتفاق الطائف) في بلاد الأرز وزعزعة استقرار الدولة وجرجرتها إلى توقيع معاهدة سلام مع حكومة ايهود اولمرت بعيدا عن غطاء جامعة الدول العربية.
«خيبة الامل» إذا ليست عراقية كما حاولت الصحيفة الأميركية اختصارها أو اختزالها إلى مسألة واحدة. موضوع العراق يحتل أولوية في اهتمامات إدارة بوش ولكن هناك مجموعة تفرعات لهذه الحلقة تمتد من بغداد إلى بيروت وتنتهي في غزة وحتى دارفور ومحاولات الرياض إيجاد مخارج عربية مستقلة لتلك الأزمات المترابطة.
مقال صحيفة «نيويورك تايمز» قد يكون مجرد سحابة صيف في علاقات تقليدية دخلت خطأ في منطقة «رمال متحرّكة» ولكنه أيضا ربما يشير إلى ملاحظات عاتبة تمس جوهر سياسة أميركية تمر في محطات حساسة تشوش على واشنطن الكثير من الرؤية العامّة في دائرة «الشرق الأوسط الكبير أو الصغير». فهذا الإفراط في القراءات السلبية الأميركية للقوى «الحليفة والصديقة» يزيد من أخطاء إدارة أسست استراتيجيتها الهجومية على منطلقات وهمية وفرضيات سياسية فوقية تبين بالتجربة الملموسة أنها لا تمت بصلة إلى واقع عربي/ إسلامي شديد التعقيد والتداخل. والمشكلة في إدارة بوش أنها لاتزال مصرّة بعد ست سنوات من الفشل المتواصل على عدم الاعتراف بالأخطاء المزمنة وتحميل القوى الأخرى مسئولية الكوارث التي ألحقتها بالمنطقة قبل وبعد العدوان على العراق واحتلاله غير المشروع والمخالف لإرادات القوى الدولية والإقليمية والجوارية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1787 - السبت 28 يوليو 2007م الموافق 13 رجب 1428هـ