لم تكن العلمانية في يوم من الأيام ضد الدين، وهي في جوهرها الصحيح تنطلق بالأساس من احترام الدين وتقديس رسالته وتدعو لحمايته من أي مس أو اعتداء. العلمانية الحقة تعلي من شأن الدين في حياة الفرد وتحفظ للدين مكانة عظيمة في ضمير الأمة. إلا أن العلمانية تم تشويهها - في المنطقة العربية والإسلامية - إما من داخلها بشطحات التطرف أو المغالاة التي تغذي طروحات إقصاء الدين عن جوانب الحياة كافة وذلك - برأينا - توجه سقيم خاطئ، أو من خارجها بقصد منع مبادئ العلمانية التحديثية الخلاقة من التكرس في مجتمعاتنا العربية والإسلامية وذلك لأغراض كثيرة.
العلمانية لا تؤخذ فقط بمعناها المبسط أو السائد الذاهب لفصل الدولة عن الدين أو السلطة السياسية عن السلطة الدينية. مصطلح العلمانية قادم من اللفظة اللاتينية «سيكيولاريزم» وتعني الدنيوية أي الحياة الدنيا بكل ما يطرأ عليها من تغيرات وما تتطلبه عبر الزمن من استحقاقات. في هذا الإطار وعلى مستوى لغتنا العربية ينحى المفهوم منحى الحياة الدنيوية، الدنيا والعالم في شموليتهما فقيل عَلمانية بفتح العين من عَالَم. وينحى المفهوم منحى الأخذ بالعلم واعتماد معطياته فقيل عِلمانية بكسر العين من عِلم.
والمفهوم وفقا لما يذهب له المعنى في حالتي كسر العين وفتحها صحيح ووارد ويتضح ذلك من تفكيك المفهوم وتحليله. فالعلم في عالم اليوم هو سيد الموقف ورسُّ تطور وتحديث المجتمعات، ولم ينل المجتمع الغربي ما ناله من تقدم اقتصادي وصناعي وتقني وحضاري إلا باعتماده بوصلة العلم ومعطياته. وذلك يعني أننا إن تطلعنا إلى التطور والتقدم فليس سوى طريق العلم مسارا. من جانب ثان فالحياة في عالم اليوم المتغير بالعلم المفعم بالكشوف العلمية هي حياة واحدة مترابطة وشاملة. وكل بقعة على وجه الأرض لا بد مشمولة بالتغير كاستحقاق للمتطلبات في كل مرحلة تاريخية من غير ناموس ثابت ولا تابو مسيطر يمنع التغيير. والعلمانية بهذا المعنى مفهوم عام لا تختص به دول الغرب بل هو قابل للتطبيق في أي مجتمع إنساني مهما كان نمط هذا المجتمع ودينه وثقافته. المطلوب فقط اختيار كل مجتمع الصيغة الأكثر ملاءمة لظروفه.
ما موقع الدين هنا؟! وهل في ذلك مساس بمكانته؟ قطعا لا، فالدين يظل في مكانته القدسية لدى الأمة وأفراد المجتمع، يظل النبراس الروحي الذي يهدي الإنسان في حياته. تظل المبادئ والقيم الدينية علامات الطريق التي يتبع الإنسان مسارها ليتعزز مسلكه الأخلاقي ويتسامى وجوده الإنساني بها. بهذا المعنى تنطوي الحياة الإنسانية على جانبين أحدهما هو الحياة المادية المعاشة بمتطلباتها المتغيرة وثانيهما هو الحياة الروحية وجوهرها العلاقة الخاصة بين الإنسان وربه. ولكلٍ من هاتين الحياتين نظمها وأسسها ولا تداخل بينهما يفسد النظام الكوني المنطقي.
وكون الإنسان يملك التفكير وحسن التقدير والتدبير، فبإمكانه أن يدرك كنه جانبي حياته المادية والروحية ويعرف حقوقه وواجباته في كل منهما. وهنا ينتفي اعتبار بعض علماء أو رجال الدين أنفسهم ممثلين لله على الأرض والمختصين من دون غيرهم بتفسير كلامه. دور هؤلاء يتركز في مهمة تبيان الجانب الروحي من الحياة وتفسير معطياته لأولئك الأفراد الذين لا يسعفهم مستواهم المعرفي أو الذين تنقصهم القدرات العقلية أو ينقصهم حسن التقدير والتدبير ليفهموا معنى وأهمية الجانب الروحي في الحياة وقيمة الأخذ بجوهر المبادئ والأخلاق الدينية السامية لتحقيق توازن الحياة الإنسانية وتلبية ثبات الشخصيات البشرية. ذلك - فحسب - هو دور علماء ورجال الدين. وبذا يكون مجال السياسة وإدارة الدولة بعيدا عن مهمات رجل الدين الذي إن شاء أن يكون فاعلا على مستوى الحقل السياسي فعليه أولا أن يتبحر في هذا الحقل، وعليه ثانيا أن يغادر دوره الديني(قلنا دوره الديني وليس دينه)، والعكس صحيح فيما يتعلق بالسياسي.
والعلمانية إذ تتحدث عن حياتين خاصة بين الإنسان وربه وعامة تتناول أنماط حياته وأساليبها وقوانينها وضرورة الفصل بينهما، فهي تتحدث عن كل الأديان ولا تخص الإسلام دون غيره. والعلمانية بهذا المعنى رديف للديمقراطية التي جوهرها التعدد بكل تجلياته الديني والثقافي والاجتماعي والسياسي. الديمقراطية تعني دولة المؤسسات والقانون، والعلمانية تدعو للدولة القائمة أساسا على المؤسسات والقانون التي يُعامل فيها الفرد كمواطن يتمتع بحقوق المواطنة ويؤدي واجباتها. والمواطنة تحميها المؤسسات والقانون فإن قصّر المواطن وأساء السلوك فدولة المؤسسات والقانون تقتص منه بغض النظر عن دينه أو مذهبه.
الفصل بين السلطتين السياسية والدينية يمنح الدين - أي دين - والمذهب - أي مذهب - ورجاله ومتدينيه مطلق الحرية والاستقلالية في معتقداتهم وفي ممارسة شعائرهم. أما ما يسري على الجميع فهو القانون من دون اعتبار لدين أو مذهب أو طائفة أو أصل أو فصل. الدولة هنا تغدو فعلا دولة المواطن الذي ينتمي لها.
لقد ارتبط ظهور العلمانية بدول الغرب الأوروبي مطلع عصر النهضة ببدايات التحرر المجتمعي من هيمنة الكنيسة. فقد شكلت الكنيسة طوال عصور الانحطاط الوسطى الحليف الرئيسي للأنظمة الملكية المطلقة والمستبدة التي احتمت بالمؤسسة الدينية واستمدت قوتها من سطوة وتأثير الكنيسة على عامة الناس. ومع بدء عصر النهضة تواتر تطور الحياة والعلم في المجتمعات الغربية وانبلج عصر الاكتشافات العلمية وبدأت مسيرة الثورة الصناعية والمغادرة التدريجية في تلك المجتمعات لعصر الإقطاع. وقد تطلب ذلك مستويات من الحرية المجتمعية تفسح للعلماء والمفكرين والمشرعين والسياسيين الانطلاق في فضاءات رحبة لصوغ مكونات ورؤى واحتياجات وقوانين مجتمعات النهضة الحديثة. وعلى المستوى الاقتصادي تبلورت الرأسمالية حقبة اقتصادية جديدة تمضي فيها عجلة تلك المجتمعات نحو مزيد من التطور الرأسمالي يوما بعد يوم.
وقد تعارض تدخل المؤسسة الدينية ممثلة في الكنيسة في مجالات تسيير المجتمع مع الآفاق الجديدة التي فتحها التطور الحادث على غير صعيد. وأصبح تدخل الكنيسة عائقا لمفردات التطور المجتمعي الجديدة وخاضت قوى المجتمع نضالا طويلا لفك ارتباط الكنيسة عن مؤسسة الحكم. وهكذا لم تتعزز نهضة الغرب ولم يصل لما وصل إليه من تقدم اقتصادي علمي صناعي تقني وحضاري إلا بعدما تحرر من هيمنة المؤسسة الدينية وأفسح الحقل السياسي للسياسيين والديني للدينيين ومنع تعديات كل منهما على مجال الآخر.
أما على مستوى منطقتنا العربية فمنذ الحملة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر ودخول رقعتنا العربية عصر الخضوع للمستعمر جاءت مفردات العلمانية وكانت على رأس عوامل التحولات السياسية والاجتماعية والفكرية التي جرت بالمنطقة. على اثر ذلك ظهرت أصوات وجدت في مظاهر التطور المدني والإداري والسياسي التي جاء بها المستعمر عوامل تتهدد الدين ومكانته وتأثيره في المجتمع وشرعت في مهاجمتها، في حين رأى فيها آخرون قيما وأفكارا وأساليب حياة تأخذ بيد مجتمعاتنا لبلوغ التقدم والتحضر وتضعها على طريق المستقبل.
ونظرا لارتباط تعرُف المنطقة المبكر على المفهوم بمجيء الاستعمار إليها، فقد تم التصدي له ومعاداته مما شوهه وقيّد النقاش الحر بشأنه. أضف إلى ذلك أن أوائل من بشّروا للعلمانية على مستوى الوطن العربي كانوا من المسيحيين في الغالب، ما كان له الدور البارز في تبلور الفهم الخاطئ للعلمانية واتساع ما سمي بالهبّة الإسلامية للدفاع عن الدين والتي انصب جهدها على إظهار أن التوجه العلماني في الحياة ونمط إدارتها هو توجه معاد للإسلام وساع لمحاربته. وعليه انطلق واتسع الهجوم على العلمانية ذاهبا لأبعد مدى حتى بلغ لدى البعض حد مساواتها بالكفر والإلحاد. وتلقف هذا الفهم الخاطئ والمشوه سُذج الرأي وبسطائه فاعتبروا العلمانية رديفا للكفر والفسق والانحلال والتغريب من دون إمعان الفكر والاجتهاد في البحث ومن دون إيراد ما يثبت ويدعم ما ذهبوا إليه.
لقد طال المصطلح تشويه كبير وصل في المنطقة العربية لمستوى الخشية من الحديث عن العلمانية أو الدفاع عنها. أصبح المصطلح في عداد المصطلحات شبه المحرمة التي يُرمى صاحبها أو حتى من يروم مناقشتها بالكفر والإلحاد كالماركسية والوجودية والمادية والشيوعية وغيرها. وبالنتيجة فالهجوم الذي يتعرض له مفهوم العلمانية في المنطقة العربية لم يفسح المجال لحوار عقلاني وبحث جاد هدفه الإدراك الفعلي للمفهوم والوقوف على جوهره. كما أنه هجوم يناقض القيم السامية والرفيعة للدين كالعدل والمساواة واحترام الغير والإخاء والتسامح ونبذ التعصب. وتلك قيم ومبادئ تؤكد عليها العلمانية خصوصا حين تدعو لفصل المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية.
والعلمانية حين تدعو لهذا الفصل فهي لا تلغي الدين على الإطلاق بل تسمو به وتحفظه من استثماره والمتاجرة به في أغراض السياسة ومصالحها. وهي - في هذا الإطار - ترى أن تداخل الديني مع السياسي يعزز الطائفية في المجتمع ويدفع بالتمييز ويخرّب العلاقات بين المواطنين ويلحق الضرر بكليهما. أما الفصل بين المؤسستين فمن جهة يحقق صون الدين كعلاقة خاصة بين الإنسان وربه ويحفظ للمؤسسة الدينية مكانتها وهيبتها ومنعتها واحترامها. فهي منزهة عن أوحال السياسة وأوساخها وتنازلاتها وتغيرات قواعد لعبتها التي تخضع في كل الحالات لمتغيرات المصالح والظروف والأشخاص. ومن الجانب الآخر فالفصل بين المؤسستين يفسح مجالات رحبة لتأصيل أفكار التطوير والتحديث والأخذ بالعلم واللحاق بركب التحضر العالمي. كما أنه يسهم في تكريس دور المؤسسات ويعزز مكانة القانون في كل جوانب الحياة وأنماط السلوك والنشاط والفعل الإنساني. وذلك خير ضامن - في المحصلة النهائية - لتجسيد مبادئ العدل والمساواة بتحجيم الظلم ونيل الحقوق.
إقرأ أيضا لـ "فوزية مطر"العدد 1786 - الجمعة 27 يوليو 2007م الموافق 12 رجب 1428هـ