من بين أحد أكثر المناظر العالقة في ذاكرتي بحدة، وكأنما تعجز أية إرادة وقدرة عن تذويبها، هي تلك التي رأيتها منذ نحو عامين أو أكثر بقليل، وبالتحديد في ضحى يوم جمعة قائضة إن لم تخن الذاكرة، وكانت لمجموعة من المتسولين والشحاذين البحرينيين من كبار السن يرتدون الملابس البحرينية التقليدية (الثوب والغترة)، وكانوا حينها جالسين بحالة مزرية على قطع كرتونية مسودة بوسخ الشارع وذلك عند أعتاب معبد هندوسي في داخل سوق المنامة بجوار حارس المعبد الذي يزجر ويثب بناظريه كنمر بنغالي أمام كل من تخطىء به خطاه من المتطفلين والفضوليين وبالأحرى عموم المارة ناحية أرض هذا المعبد، ويشير بقضيب حديد في يده إلى لافتة مكتوب عليها (أملاك خاصة)، فيرتد المارة نحو الوراء ويغيروا من خط سيرهم بداخل هذا السوق، في حين يغدق بعض الهنود من مرتادي المعبد ممن تبرز من سيماهم وحلتهم مظاهر الرغد واليسر بالمال على مجموعة المتسولين والشحاذين البحرينيين الجالسين عند أعتاب هذا المعبد، لترى الابتسامات والانشراحات على محيا الشحاذة والتسول التي ترفع كفيها إلى السماء عسى أن تفلح في إيصال الدعاء إلى كبد السماء بلهجة بحرينية لهذا المحسن الهندي الطيب القلب «الله يخليك يا عمي ويكثر من أمثالك» أو «الله يعطيك الصحة والعافية والذرية الصالحة»، وفي الطرف الآخر للشارع يقف عدد من باعة اليانصيب من الوافدين وربما المواطنين الهنود وهم يعرضون التذاكر، وأحيانا يصطدمون مع الشحاذين والمتسولين في الطرف الآخر، حيث أن كلا الطرفين ينظر للآخر كمصدر وتهديد استراتيجي للرزق!
أذكر بأن هذه الصورة طفحت من جديد في بالي حينما جرى الحديث وازدادت سخونته عن قانون التسول وضرورة وجود مثل هذا القانون لمعاقبة كل من تسول له نفسه أن يتسول بمختلف وسائل المعاقبة من فرض الغرامة والسجن، وتمحور حينها الجدل حول عدد من النقاط التي لا يمكن تجاهلها حينما يتم طرق باب هذا الموضوع ومنها التعريف المفهومي لمفردات التسول والمتسولين، بالإضافة إلى بحث الأسباب الاجتماعية التي تولد هذه الظاهرة المرضية المزعجة والمشوهة لسمعة البلد إلى حد يمكن من خلاله الطعن في ولاءات جميع الشحاذين والمتسولين والمتوسلين على كف سواء، وربما اتهامهم بالعمالة لجهات سياسية معادية تستهدف توريط البلد وتشويه سمعتها بمظاهرهم المقززة، فهم نشطاء سياسيون متخابرون ومتعاملون أكثر من كونهم إخوة ورفقاء الشحاذة والتسول!
ولربما يقترح أحد الشحاذين والمتسولين ممن يفلح في الوصول إلى ما هو أعلى من غاياته ومراميه إلى وضع مشروع ومبادرة عملية لإصلاح الشحاذة والتسول في البلاد وتحسين أشكال وهيئات الشحاذين والمتسولين في البلاد عبر إلباسهم ملابس وحلل نظيفة مطرزة ومقصبة تعكس تاريخ وحضارة وتراث هذا البلد، وأن يتم بالتالي تدريبهم على عدد من المهارات التي تحقق لهم شحاذة وتسولا محترما يفي بالغرض على أن تتم مناصفة المقسوم بين أصحاب المهنة «المحترمة» ورعاتهم!
فهل من الممكن أن توجد دولة تحضن متسوليها وشحاذيها وتفخر بهم كنصب تذكارية ورموز وطنية ذوي حظوة قومية، فتقيم لهم شأنا وتيسر عليهم سبلهم ومسالكهم للتدرج والترقي في الحياة؟!
وهل يوجد قبل هذه الدولة ثقافة ترسخ لهذا التسول وتكون له حمولة قيمية وعرفية، ومعونة احتمائية تسنده بعد أن تحضنه وتؤسس لوجوده المجتمعي الفطري بشكل ملموس؟!
ليس بالضرورة أن يكون ذلك التكوين والتأسيس طرحا سلسا في أزهى الأحلام الوردية لمتسول خائب من المتسولين، وشحاذ يشحذ خطى دروبه المعيشية من فتات كريم أو سحت لئيم يتصدق به الآخرون، ولكن في اعتقادي أنه طالما وأن غابت العلاقات المؤسسية والأنظمة القانونية الفاعلة من كيان وبنيان الدولة الحيوي، ولم تعد بمقدورها أن تسير عمل الدولة وأواصرها العضوية مع المجتمع ومواطنيها الذين تخضع علاقاتهم وروابطهم للمأسسة القانونية الاحتوائية لحقوقهم وواجباتهم، فإنه يتسنى أن يعيش في كنف هذا الفراغ الانضباطي والانتظامي مع الثقب الهائل في صدر المصلحة العليا والمنفعة العامة وذلك بين الفرد والمجتمع والدولة وأن تنبت سلاسل وحلقات من علاقات التسول والشحاذة الزبونية التي تتخذ من وسائط وأردية ذات بعد وأفق قرائبي ووشائجي يتمظهر قبليا وطائفيا وفئويا وحتى عشائريا، وهو بالتالي يعتمد بشكل كبير عليها في نسج تلك العلاقات مع الدولة حسب سياق ووسط مجتمعي!
فهذه بلا شك حالة شائعة وتقليدية في الأوساط العربية والإقليمية وإن تفاوتت بتعدد وتنوع الظرفيات بين الدول والأقاليم والأقانيم، وهي بالتالي مع استمراريتها قابلة لأن تطوع أي جهد ارتجاعي وتنموي منفلت العيار لصالحها!
فإن كان أولئك المواطنون أو المتسولون أمام المعبد الهندوسي في وضعية بشعة ومذلة ومحرجة ومزرية إلى ما له نهاية وحد من نعوت فإنهم مع ذلك الأكثر براءة وسذاجة وطفولية بين سائر أنواع التسولات والشحاذة المتواشجة في قنوات المجتمع والدولة، وخصوصا إن كنت أمام متسول يرتدي بشتا أو عمامة بلحية أو من دون لحية يعظ الناس ويعض أفئدتهم بأسنان مواعظه الناعمة التي لم تركد له حاجة ونزعة ولم تروض له شهوة أوتثقل له حجما وميزانا كمواطن أصلا قبل أن يكون رجل دين تفترض فيه الفضيلة، فإذا به من أراذل المتسولين!
أو إن لمحت تارة متسولا وشحاذا يقود «مرسيدس» أو «لكزس» أو «إنفينيتي» قد لا يكون بالضرورة سرقها، ويرتدي أبهى الحلل ومع ذلك ينحدر في تسوله وشحاذته كأردأ ما يكون وأكثره مدعاة للاستخفاف والازدراء ومجلبة للذل الذي قد يلطف منه حال متسولي وشحاذي المعبد الهندوسي في قلب المنامة، أو متسولي سوق الحلوى الشعبية في المحرق!
وربما من صحافي ومثقف و«ناشط سياسي» وأستاذ جامعي أو مفكر نهضوي لطالما دعا إلى دولة المؤسسات والقانون وقبلها الوفاق الوطني فإذا به يؤقلم ويؤقنم وضعه مع قوانين وشروط التسول الحضارية تلك، فيبدو لك كبائع دكان أو «صندقة» أو «شبرة» يتوسل صاحب هذا الدكان أن لا يقطع عنه فضله وخدماته وإن تماطل وتباطأ في سداد الإيجار، وأن لا يرمي به وسقط متاعه في الشارع!
فهل باستطاعة قانون للشحاذة والتسول أن يخضع تلك العلاقات والروابط والمسالك المتغلغلة في مفاصل الدولة والمجتمع والقيم الفردية وأن يحمي المصلحة العامة من شرورها؟!
وهل من رؤية تعاقدية مستقبلية بين الفرد والمجتمع والدولة تخفف وتزيح ولو قليلا من عبء/ غواية هذه العلاقات والسبل والتواصليات التسولية قبل أن نحرز لقب إندونيسيا أو سيريلانكا الخليج العربي بجدارة وامتياز بدلا من تحقيق الحلم السنغافوري، وإن كنا من دون شواطىء وآفاق؟!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1786 - الجمعة 27 يوليو 2007م الموافق 12 رجب 1428هـ