في المشهد العربي الأميركي، أطلق الرئيس بوش الدعوة إلى مؤتمر دولي يضم الفلسطينيين والإسرائيليين وبعض دول الجوار برئاسة وزيرة خارجيته تحت عنوان: إقامة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، ولم يفت الرئيس الأميركي أن يدعو الفلسطينيين إلى نبذ ما أسماه العنف والإرهاب ضد «إسرائيل»، وأن يحذر حماس من استغلال سيطرتها على غزة في مواجهة حكومة الطوارئ وأن يدعو «إسرائيل» إلى عدم توسيع المستوطنات وإلى نزع الحواجز غير المرخصة، إضافة إلى دعوته الدول العربية المعتدلة إلى المساعدة في بناء الدولة الفلسطينية طالبا منها المزيد من الجهود الدبلوماسية والاقتصادية والإقتداء بمصر والأردن في الاعتراف المطلق بوجود «إسرائيل»...
نلاحظ في هذه الدعوة الأميركية أنها تنطلق من حاجة الإدارة الأميركية بشخص رئيسها إلى الحصول على تأييد عربي وإسلامي باعتبار أن القضية الفلسطينية هي القضية الرئيسة في الوجدان السياسي العام للعرب والمسلمين الذين يحمّلون أميركا المسئوليات في التأييد المطلق لـ «إسرائيل» في كل احتلالها لأرض الفلسطينيين والقيام بالمجازر الوحشية في الضفة الغربية وغزة ضد الشعب الفلسطيني ولاسيما المدنيين وتدمير البنية التحتية للبشر والحجر والشجر، الأمر الذي أسقط صدقية الإدارة الأميركية لدى شعوب المنطقة.
وعلى رغم من أن الرئيس الأميركي يكرر منذ سنوات الحديث عن دولة فلسطينية إلى جانب «إسرائيل» ولكنه كان يحمّل الفلسطينيين ـ منذ البداية ـ المسئولية عن فشل إقامة هذه الدولة من خلال اعتباره حركة المقاومة ضد الاحتلال حركة إرهابية، لأنّه إنما يسعى إلى تحقيق الأمن المطلق لـ «إسرائيل» في احتلالها للأرض وفي بناء المستوطنات والجدار العازل ومنع عودة اللاجئين وإثارة التحفظات بشأن خريطة الطريق بما يؤدي إلى إفراغها من محتواها الواقعي وإعطاء الكيان الصهيوني صفة الدولة اليهودية على رغم العرب الموجودين فيها والذين هم أصحاب الأرض الحقيقيين.
وقد صرح أحد المسئولين الصهاينة بأن «إسرائيل» ليست مستعدة للمفاوضات بشأن الحدود واللاجئين والقدس، ما يطرح سؤالا على المعترفين بالدولة العبرية عن حدود الدولة التي يعترفون بها؟ كما يطرح على المطالبين بالاعتراف بها، السؤال عن الصيغة القانونية التي يراد الاعتراف بها في دولة تمتد حدودها إلى أقصى الأراضي الفلسطينية.
إننا نتصور أن دعوة الرئيس بوش هي للاستهلاك السياسي ولخداع الأنظمة العربية ولتأكيد العمل المضاد لفصائل المقاومة من دون أي التزام إسرائيلي بالامتناع عن الاجتياح والاغتيال والاعتقال بالأسلحة الأميركية المتطورة... إنها دعوة لحساب المصلحة الإسرائيلية في إيجاد الظروف الملائمة لتحقيق استراتيجيتها التي لن تتنازل عن أي مشروع من مشروعاتها، ولدفع الفلسطينيين والعرب إلى تقديم التنازلات من خلال السلطة والأنظمة العربية، مع بعض ما يحفظ ماء الوجه، وإيجاد حال من التطبيع بين «إسرائيل» والدول العربية، ولاسيما دول الخليج التي يراد لها أن تزور «إسرائيل» على طريقة السادات، لتكون النتيجة هي الدولة المسخ التي لا تمنح الشعب الفلسطيني معنى الدولة القابلة للحياة، وربما كانت أهداف هذا التجمع العربي برئاسة أميركا هي إنشاء جبهة عربية ضد إيران ما قد يحرج الموقف العربي الرسمي.
إن الجميع يعرفون أن هذا الرئيس الخاضع لـ «إسرائيل» لن يحقق الدولة في عهده، بل سيترك ذلك لمن يأتي بعده، تماما كما حدث ذلك للرؤساء الذين سبقوه ممن يخلصون لـ «إسرائيل» أكثر من إخلاصهم لمصالح أميركا ويقومون بخداع الأنظمة العربية التي يفتحون أمامها أبواب الآمال الكاذبة.
وفي المشهد الفلسطيني ـ الإسرائيلي كان اللقاء بين رئيس السلطة ورئيس الكيان الصهيوني الذي غلبت عليه صفة المجاملة الواقعية، فقد رئيس وزراء العدو قدرته على الاستمرار في اجتياح المدن والقرى الفلسطينية في الضفة الغربية واعتقال الفلسطينيين المطلوبين من «إسرائيل» أو اغتيالهم وإبقاء الحواجز التي تعقّد حركة الفلسطينيين وتذلّهم وتمنعهم من تدبير أوضاعهم الاقتصادية، مع التحذير الشديد من أولمرت لعباس من أنه إذا استأنف اتصالاته مع حركة حماس وأعاد التحالف الحكومي معها، فإن العملية السياسية الجارية الآن بين «إسرائيل» والسلطة الفلسطينية ستنهار.
وقد قالت إذاعة العدو أن أيّا من المسائل الجوهرية كالحدود والقدس واللاجئين لم تطرح في الاجتماع، ولذلك فإن هذه القمة بين الذئب والضحية انتهت من دون نتائج فعلية، وهذا هو الذي يفسر موقف رئيس السلطة وأتباعه من رفض الحوار مع حركة حماس لأن هذا الاحتفال الأميركي والإسرائيلي والأوروبي والعربي بحكومة السلطة كان ترحيبا بإخراج حماس من دائرة الضوء السياسي والتخطيط لإنهاء المقاومة ضد الاحتلال، كما حدث في توقيع كتائب شهداء الأقصى على رفض المواجهة مع العدو والتمهيد لإنهاء المقاومة ضد الاحتلال.
إننا نرى في هذه التطورات في المسألة الفلسطينية والموقف الأميركي والأوروبي والعربي نذر خطر على مستقبل القضية، ولاسيما بعد اختيار رئيس الحكومة البريطاني السابق، بلير، رسولا لإدارة الأمور في اللجنة الرباعية الدولية، لأن الجميع يخططون للخروج من المأزق الذي لا يزال يحيط بكل الواقع الدولي والعربي في المنطقة كلها.
من جانب آخر، فإن الواقع الإسلامي لايزال يخضع من خلال المسئولين الذين وظفهم الاستكبار العالمي وعلى رأسه أميركا لإسقاط كل حركة التحرر من الطغيان والاستبداد تحت شعار الحرب ضد الإرهاب الذي تحوّل إلى حرب أميركية عالمية لمواجهة كل الذين يعارضون سياستها الاستكبارية التي تريد من خلالها أن تفرض إمبراطوريتها على العالم ولاسيما على المستضعفين في العالم الثالث، بما في ذلك العالمين العربي والإسلامي. وهذا ما نواجهه في باكستان التي انطلق رئيسها للقيام بالمجزرة الرهيبة ضد المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ في المسجد الأحمر، ما صفق له الرئيس الأميركي في تأييده للرئيس الباكستاني في تحويل الأوضاع في ذلك البلد المسلم إلى ما يشبه الفوضى التي بشر بها الرئيس بوش بعنوان الفوضى الخلاّقة، كما حدث ذلك من قبل في أفغانستان والعراق وهما البلدان المسلمان اللذان تحوّلت الأوضاع فيهما إلى مجازر وحشية متحركة يعاني منها المدنيون الأبرياء، في الوقت الذي تساقطت سياسة الإدارة الأميركية والحلف الأطلسي تحت تأثير الفوضى الأمنية والسياسية والسقوط الاقتصادي للشعب كله من خلال فقدان الخدمات الضرورية التي تمثل حياة الناس.
إننا نتابع حركة هذه الإدارة الشيطانية في تحويلها العالم الإسلامي إلى ساحة حرب من جهة وفتنة من جهة ثانية، واضطراب في الأوضاع من جهة ثالثة، ونريد للعالم الإسلامي أن يقف بقوة ضدها، كما نريد لمنظمة المؤتمر الإسلامي أن تجمع هذه الدول التي تنتمي إليها لمواجهة هذا القضم الأميركي لمواقع المسلمين والذي يهدد الواقع كله ويدمر البلاد والعباد، لأنه لا بد أن يرتفع الصوت عاليا في خط الرفض والمواجهة.
أما في لبنان، فقد عاد المؤتمرون في فرنسا بعدما التقوا في جلسة أوحت بجو من الهدنة، وكانت فرصة لإيجاد مناخ من العواطف الساذجة في الوقت الذي عاد الجميع إلى قواعدهم السابقة لينتظروا موعدا جديدا لمسئول فرنسي لا ندري ماذا يملك من القدرة على حلّ المشكلة، وخصوصا بعد التطورات السياسية الطارئة في موضوع النصاب وغيره...
إن علينا أن نحدق مليا في الموقف الأميركي الذي بدأ يضع العراقيل أمام الحركة الفرنسية، لأنه لا يريد لأي مسعى عربي أو غربي أن ينطلق بعيدا عن الحدود المرسومة أميركيا، ولذلك فإن المسألة اللبنانية ستظل رهينة الأميركيين الذين يعملون للالتفاف على مساعي الحلول من خلال السقف السياسي الذي يحددونه لهذا الفريق الدولي أو ذاك الفريق الإقليمي.
إن مشكلة الأزمة اللبنانية هي أنها ترتبط بأزمة المنطقة، ما يجعل الجهات الدولية والعربية المعنية بالعلاج ترى أن المسألة بحاجة إلى مداخلات في أكثر من بلدٍ ممن تتصل مصالحهم بحركة الواقع اللبناني في بعديه الداخلي والخارجي، ولاسيما أن التعقيدات الأمنية والسياسية تتحرك في نسيجه الطائفي الذي ينطلق فيه القائمون على شئون بعض الطوائف دينيا وسياسيا ليضعوا العصيّ في الدواليب حفاظا على خصوصية طوائفهم في مواجهة الطوائف الأخرى، ولاسيما من خلال بعض الحساسيات الثقافية أو بعض الأوضاع الوظيفية، وخصوصا بعد الذكرى السنوية للعدوان الصهيوني وانتصار المقاومة على جيشه في عملية استعادة للعنفوان العربي والإسلامي وصناعة جديدة للتاريخ، في الوقت الذي يتحدث بعض مسئولي العدو عن التخطيط لحرب جديدة في المنطقة لاستعادة جيشه الهيبة التي كان يتمتع بها سابقا تحت مقولة الجيش الذي لا يقهر.
إننا إذ نثير هذه المسألة قد لا نجد هناك فرصة واقعية لمثل هذه الحرب سواء في لبنان أو سورية أو إيران، ولكننا لا بد أن نأخذ بأسباب الحيطة والحذر ونقف مع المقاومة التي تملك الكثير من الشجاعة والصلابة والخبرة والاستعداد لمواجهة التطورات في المنطقة كلها.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1785 - الخميس 26 يوليو 2007م الموافق 11 رجب 1428هـ