احتضنت اشبيلية حاضرة الأندلس وأكبر مدنها الحوار العربي الأوروبي بدعوة من منظمة الثقافات الثلاث (three cultures) في الفترة ما من 28 إلى 30 يونيو/ حزيران 2007، وتشاء الصدف أن أرجع إلى الأندلس خلال أقل من شهرين بعد زيارة قرطبة في المرة الأولى، اذ عقدت ندوة نادي مدريد بشأن تجربة الإصلاح في البلدان العربية الثلاث المغرب والأردن والبحرين.
وكان اختيار مدينة اشبيلية كمحطة ثانية للحوار العربي الأوروبي بعد باريس التي شهدت الجولة الأولى في الفترة ما بين 13 - 15 سبتمبر/ أيلول 2006 موفقا، فالمدينة هي حاضرة الأندلس ودرة تاجها على امتداد ما يزيد على 450 عاما من الحكم العربي الإسلامي.
إن جولة سريعة في المدينة تبهر الزائر بما خلف العرب من آثار معمارية رائعة باقية حتى الآن على رغم عوادي الزمن مثل الجامع وقصر المنصور ومئذنة الخرالدا.
التقينا خلال المؤتمر بمسلمين أسبان مثل السيج منصور إيزودورو وزوجته من منظمة الرابطة الإسلامية والذي أفادنا أن هناك حركة واسعة في الأندلس لإعادة الاعتبار للحضارة العربية الإسلامية والاعتراف بدورها في تكوين اسبانيا وإعادة المساجد التي شوهت معالمها بتحويلها إلى كنائس أو مبان عامة، والاعتراف بالخصوصية الأندلسية وتعليم العربية ونشر الثقافة العربية الأندلسية.
وعلى رغم مضي أكثر من 600 عام على نهاية الحكم العربي للأندلس وعملية محو للحضارة العربية الإسلامية، فإن التأثير العربي الإسلامي في أسماء الشواهد باقية.
مؤسسة الثقافات الثلاثة التي استضافت هذا اللقاء تأسست في اشبيلية العام 1999 كمؤسسة مغربية إسبانية ثقافية تعنى بالتعاون الأندلسي المغربي، اتخذت من البيت المغربي البديع في المعرض الدولي مقرا لها لكنها تطورت سريعا لتصبح مؤسسة تعنى بالتبادل والتعاون والحوار الثقافي بين ضفتي المتوسط، أوروبا والدول العربية المتوسطة من ناحية أخرى، واستمدت المؤسسة اسمها الثقافات الثلاث من الديانات والثقافات السماوية الثلاث الإسلام والمسيحية واليهودية التي تعايشت وتفاعلت بإبداع على أرض الأندلس في ظل الحكم العربي الإسلامي وجاءت المؤسسة لتعيد إحياء ثقافة التسامح والاحترام المتبادل، ولتؤسس عليها حوارا بناء يتعدى ذلك ليستظل بروح الحضارة الإنسانية القائمة على التعاون البناء والاحترام المتبادل والتعايش الخلاق تمخضت عن اجتماع باريس وثيقة مهمة صدرت باللغات الثلاث العربية والإنجليزية والفرنسية ونظم المركز الثقافي الفرنسي ورشتي حوار لعدد من المثقفين البحرينيين المرموقين يومي 20 مارس/ آذار و 18 أبريل/ نيسان، ناقشوا فيه وثيقة باريس وطرحوا رؤاهم بشأن قضايا الحوار، وكان مؤملا أن يتشكل وفد منهم إلى ملتقى أشبيلية لكن مؤسسة الثقافات الثلاث خفضت المدعوين الذين حضروا باريس إلى أقل من النصف وهذا ما أثار احتجاجا كثيرا من الوفود، لكن ما يعزي النفس هو أن وثيقة البحرين وزعت في الورشة التاسعة بشأن «التحديث الاجتماعي» وعرض ملخصها في الجلسة الختامية لملتقى اشبيلية.
في الجلسة الافتتاحية التي عقدت في مقر منظمة الثقافات الثلاث تمثلت في مختلف الأطراف المشاركة في الحوار وشارك فيه ممثل الملك محمد السادس أندريه أزورال، المدير المناوب لمنظمة الثقافات الثلاث محمد الناجي، والمدير المناوب للمنظمة انريكوا دمشيرا، والسفير الاسباني لشئون المتوسط خوان بلات والسفير الفرنسي لمشروع الحوار العربي الأوروبيجاك هنزنجر.
لا شك في أن مبادرة الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في إطلاق عملية الحوار تحت اسم الحوار الأوروبي - المتوسطي - الخليجي هو في حقيقته حوار عربي أوروبي لأن دور غير العرب وهم الإسرائيليون من مؤيدي السلام والأتراك دور محدود وتسميته بالحوار الأوروبي المتوسطي الخليجي للتوافق مع ما هو متفق عليه أوروبيا والبناء عليه. فهناك صيغة الشراكة الأوروبية المتوسطية القائمة أصلا استنادا إلى إعلان واتفاقيه برشلونة منذ 1996. لكن مبادرة الرئيس الفرنسي انطلقت بعد مجموعة من الحوادث التي احدثت شرخا كبيرا بين أوروبا والمسيحيين من ناحية، والعربي والمسلمين من ناحية أخرى، ومنها العمليات الإرهابية في أوروبا التي تورط فيها مسلمون وعرب والرسومات الدنماركية المسيئة للرسول (ص) وتصريحات البابا بنيدكتس بشان فتوحات الإسلام الدموية وغيرها، ما وسع الفجوة بين أوروبا من ناحية والعالمين العربي والإسلامي من ناحية أخرى هو يتطلب حوارا ثقافيا وسياسيا وحضاريا صريحا من قبل النخب المثقفة من الجهتين.
أما السبب الثاني فيعود إلى أن منطقة عربية مهمة وهي الخليج والجزيرة العربية هي خارج إطار الشراكة الأوروبية - المتوسطية، وكان لابد من إدماجها في هذه الشراكة من خلال عملية الحوار هذه وتتطور إلى إدماجها في منظومة الشراكة الأوروبية المتوسطية وإذا كانت المبادرة فرنسية فإنها ومنذ انطلاقتها في الجولة الأولى للحوار الأوروبي - المتوسطي الخليجي في باريس في سبتمبر/ أيلول 2006 فقد حظيت بدعم ومشاركة عدد من الدول وخصوصا تركيا، اسبانيا، ومصر والمغرب والأردن، كان من الواضح منذ البداية أن الحوار الأوروبي العربي يعني أساسا منظمات وشخصيات المجتمع المدني، ويقتصر الحضور الرسمي على ممثلي المنظمين والمضيفين والدول الداعمة في الجلسات العامة فقط.
مثلت جلسة الافتتاح استعراضا بانوراميا لآراء الأطراف المنظمة والداعمة للحوار السفير الفرنسي الخاص هينزنجر، أكد أنه إذا كانت مبادرة الحوار فرنسية فإنها أضحت ملكا لجميع المشاركين فيها وأكد مرة أخرى استمرارية دعم فرنسا لعملية الحوار في ظل الرئيس الفرنسي الجديد نيكولاي ساركوزي، الذي يطرح صيغة متطورة للشراكة الأوروبية المتوسطية كبديل لانضمام تركيا أو المغرب للاتحاد الأوروبي، المديرين المناوبين لمؤسسة الثقافات الثلاث الاسباني إنريكو أوشيرا والمغربي محمد الناجي، أكدا أن دور المؤسسة تجاوز تعزيز العلاقات الثقافية المغربية الأندلسية -الاسبانية بحيث أضحت تلعب دورا مهما في تعزيز العلاقات الثقافية والحوار الحضاري الأوروبي المتوسطي وأنها شكلت قناة لحوار اسباني مغربي أثناء أزمة الجزر المتنازع عليها بين البلدين بعد أن انسدت قنوات الحوار الرسمي المباشر. وبالتالي فإنه يمكن للمؤسسة أن تلعب الدور ذاته في قضايا أخرى بين أطراف متنازعة وفعلا فقد كشف مستشار الملك المغربي أندريه ازورال وهو بالمناسبة يهودي يعرف نفسه بأنه مغربي مؤيد للحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني وتسوية سلمية شاملة، عن مبادرة من الشخصيات الدولية المرموقة مقدمة إلى مجلس الأمن وللطرفين الإسرائيلي - العربي تستند أساسا إلى القرارات الشرعية الدولية، لكنها ملتزمة بجدول زمني لتنفيذ وإجراءات متبادلة. ممثل وزير الخارجية الأسباني، السفير خوان براتكول شدد على ضرورة الاعتراف بالفوارق والحواجز والإرث السلبي الذي يفصل بين ضفتي المتوسط وكذلك بين العوالم الثلاث الإسلام والمسيحية واليهودية وحذر من خطورة ترسيخ مقوله ارتباط الإسلام بالإرهاب لدى الغرب وارتباط أوروبا بالحروب الصليبية قديما وحديثا كما هو سائد لدى العرب والمسلمين. في الوقت ذاته أكد وجود كثير من القواسم المشتركة بل حضارة وهوية متوسطية منذ أقدم الأزمان حتى الآن يتوجب تعزيزها وتصحيح المفاهيم المغلوطة والسياسات الجائرة. وزيرة الثقافة الأندلسية موريل تشافيز ذكرت الحاضرين بخطورة الوضع في الشرق الأوسط وبؤر التوتر فيه، وأحد نتائجه المباشرة مقتل 6 جنود اسبان ضمن قوات الأمم المتحدة في جنوب لبنان منهم 3 من الأندلس. وتسبب هذا الحادث في موجه جديدة من الكراهية أطلقها اليمين المتطرف في إسبانيا للتحريض على العرب والمسلمين ونوهت الوزيرة الأندلسية بضرورة حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كمقدمة لمعالجة صحية بين ضفتي المتوسط قائمة على التعايش والمصالح المشتركة ضمن عالم منفتح وعولمة متسارعة أشار المتحدثون إلى المشروعات والبرامج القائمة على تعزيز الحوار والعلاقات الأهلية بين ضفتي المتوسط بما في ذلك منطقة الخليج فهناك مؤسسة أنا لنده المنبثقة عن الاتحاد الأوروبي ومقرها الإسكندرية لحوار الحضارات، وهناك شبكة الجامعات الأوروبية المتوسطية الذي ترعاه كل من إسبانيا وإيطاليا لتشجيع تعاون الجامعات، وتوفير منح دراسية لطلبة من الدول العربية لدى الجامعات الأوروبية وأشير خصوصا إلى معهد العالم العربي في باريس والذي تجاوز نشاط فرنسا ليشمل الكثير من الدول الأوروبية والعربية، وأشير إلى المهرجانات الثقافية والسياسية الأوروبية المتوسطية، كما في غرناطة وطنجة وباليرموا وجنيف، كما أشير إلى المشروع الألماني لإعداد المدرسين العرب. وزيرة الثقافة الأندلسية كانت بليغة في تعبيرها عن خسارة الأندلس وإسبانيا نتيجة تحول التعايش الإسلامي المسيحي اليهودي في ظل الحكم العربي إلى حروب وتدمير حضاري ترتب عليها طرد اليهود من اسبانيا بدءا من العام 1402 وطرد العرب المسلمين بدءا من 1664. واختتمت بالقول إنه في غياب الحوار الحضاري ينشب الحوار بالبنادق كما في فلسطين والعراق ولبنان وكما ينذر بالخطر في مناطق أخرى على ضفتي المتوسط.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 1784 - الأربعاء 25 يوليو 2007م الموافق 10 رجب 1428هـ