ثلاثة أخبار تناقلتها وكالات الأنباء في يوم واحد. الأوّل يشير إلى تشكيل لجنة أمنية ثلاثية تجمع الولايات المتحدة وإيران وحكومة نوري المالكي (المتعاملة مع الاحتلال) وظيفتها دعم الخطة الأمنية والقضاء على تنظيم «القاعدة» في العراق.
الثاني يعلن وصول لجنة مكلفة من جامعة الدول العربية إلى تل أبيب للتفاوض مع حكومة إيهود أولمرت بشأن تحريك عملية السلام والبحث في إمكان التفاهم على صيغة حل قبل اقتراب موعد «المؤتمر الدولي» في الخريف المقبل.
الثالث يذكر حصول مصافحة عفوية في مرحاض الأمم المتحدة بين السفيرين السوري والإسرائيلي، الأمر الذي اعتبرها بعض المراقبين بداية التفاوض العلني بين دمشق وتل أبيب بعد وروود أخبار متعارضة عن لقاءات واتصالات سرية ودائمة بين الطرفين.
ماذا تعني تلك الأخبار، فهل هي محطة جديدة في العلاقات الأميركية - الإيرانية، والعربية - الإسرائيلية، والسورية - الإسرائلية أم أنها مجرد لقطات سريعة في مشهد عام لا يمكن التعويل عليه وبناء تصورات بشأنه؟
الأخبار الثلاثة التي تناقلتها وكالات الأنباء في يوم واحد ليست الوحيدة في هذا المضمار. فهناك الكثير من التسريبات والمعلومات والسيناريوهات التي تنشرها الصحف والمجلات تنقل فضاءات تتشابه مع فحوى تلك الأخبار الثلاثة. فتحت عالم الصراخ والشتائم والسباب والمزايدات هناك عالم آخر من الاتصالات واللقاءات وتبادل المعلومات والخبرات وغيرها من تطمينات سياسية وأمنية.
مثلا ما هو التفسيرالذي يمكن تقديمه لمعنى تشكيل لجنة ثلاثية أمنية تجمع إيران والولايات المتحدة في وقت تتهم واشنطن طهران بأنها تقف وراء زعزعة الاستقرار في العراق وترد طهران بأن واشنطن هي الطرف المسئول عن تخريب الأمن في بلاد الرافدين؟ التفسير المنطقي لابدّ أن يذهب في ثلاثة اتجاهات: الأوّل أن طهران وواشنطن متفقتان أصلا وتريدان اقتسام النفوذ، الثاني أن العاصمتين تناوران لكسب الوقت وكل طرف يريد اكتشاف نقاط ضعف الخصم، والثالث أن أميركا ضعيفة جدا ولم تعد قادرة على ضبط الوضع الأمني من دون مساعدة إيرانية.
الاحتمالات الثلاثة واردة ولكن أيهما أقرب إلى الواقع، وهل يمكن فهم تشكيل لجنة مشتركة بين الطرفين خارج سياق استعداد كل طرف قبول الآخر في المعادلة؟ هل وصلت واشنطن إلى قناعة ميدانية أنها باتت في موقع الضعيف والفاشل ولابدّ لها من الاعتراف بدور إيراني في العراق حتى تضبط الأمن وتضمن حصتها أو تحقق ذاك «الانسحاب المشرّف» من بلاد الرافدين بعد سنة أو أقل أو أكثر؟ إذا كان هذا هو واقع الأمر لماذا إذا كل هذا التهويل والتخويف وحشد الجيوش واستنفار الأساطيل، هل في المسألة لعبة وقنابل دخانية لتضليل الرأي العام وخداعه؟
الخبر الثاني مثال آخر على الأول. فهل المبادرة العربية التي أطلقت في قمة بيروت وجددت عناصرها وبنودها في قمة الرياض «سرية» إلى هذا الحد وتحتاج إلى وفد عربي مكلف من الجامعة ؛ ليقوم بزيارة إلى تل أبيب لشرح مشروع السلام العربي في وقت رفضت واشنطن المبادرة حين الإعلان عنها في بيروت أو الرياض؟ «إسرائيل» أكدت مرارا رفضها للمبادرة وشككت بالنوايا العربية وتجاهلت الشرعية الدولية ومانعت في تنفيذ القرارين 242 و338، إذا ما هو الجديد الذي يستدعي إرسال بعثة تقصي عربية والتقاء مسئولين إسرائيليين، فهل هناك كلام آخر غير ما تنص عليه القرارات الدولية الموضوعة في الثلاجة منذ 40 عاما أم إعادة قراءة للمبادرة العربية المرفوضة منذ 5 سنوات؟
أسئلة كثيرة وعلامات استفهام وتعجب يمكن وضعها في هذا الصدد وهي لا تقل استغرابا من تلك المصافحة التي تمت بين السفيرين السوري والإسرائيلي في مرحاض الأمم المتحدة.
مصافحة المرحاض
الخبر الثالث يثير الانتباه لا لكونه تم في مرحاض بل لأنه جاء في سياق سلسلة من التسريبات تحدّثت كلها عن اتصالات ولقاءات ومباحثات لم تنقطع على مستويات متدرجة حتى إبان العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان في الصيف الماضي.
الأخبار الثلاثة تشير إلى دلالات سياسية على رغم بساطة إعلانها إو إخراجها. فالخبر الأوّل يدل على احتمال حصول تفاهم إيراني - أميركي لتقاسم النفوذ في العراق في حال وصل الخيار العسكري إلى طريق مسدود. والخبر الثاني يشير إلى احتمال التوصّل إلى تقاطعات عربية - أميركية بشأن الموضوع الفلسطيني لا يرتقي إلى الصيغة الدولية المنصوص عليها في القرارين 242 و338 ولا يتراجع إلى حد أدنى يفرّط ما تبقى من حقوق فلسطينية في الضفة والقطاع. والخبر الثالث يوضح مدى التواصل السوري - الإسرائيلي من القنوات السرية إلى مرحاض الأمم المتحدة. والتواصل هو البديل الموضوعي عن مأزق الجولان. فتل أبيب غير مستعدة للتخلّي عن المرتفعات ودمشق غير قادرة على تحريرها سلما أم حربا و»البديل الموضوعي» هو محاولة البحث عن ترضية تلاقي القبول من الطرفين.
الأخبار الثلاثة إذا واضحة الدلالات في إشاراتها السياسية. فالأوّل يشير إلى العراق والثاني فلسطين والثالث لبنان. فالساحات الثلاث تحوّلت إلى مجالات مفتوحة للحروب المكشوفة دوليا والقابلة أيضا للتفاوض عليها بعيدا عن رغبات أهلها وشعوبها. وهي في هذا المجال أصبحت بمثابة إمدادات حيوية للتجاذبات الدولية والإقليمية وربما المحلية. فهل هذا التحليل يقارب الواقع أم هو مجرد تكهن في مجرى سياسات لاتزال مجهولة وتحتاج إلى معلومات أكثر لاستيعاب منطقتها؟
المسألة حتى الآن لاتزال طي الكتمان وربما تكون مفتوحة على احتمالات أخرى غير ظاهرة على الشاشة السياسية. ومثل هذا الغموض يطرح أسئلة قلقة. أيهما أقرب إلى الحقيقة، ذاك الكلام الذي يقال في الصحف والتلفزة أم تلك التسريبات التي تبثها الأجهزة ووكالات الأنباء؟ التفاوض يمكن رصده في أكثر من مكان. فالظاهر علنا أن أميركا تحشد القوات وترسل حاملات الطائرات وتكدّس الأسلحة وتجري المناورات. وعلى خط موازٍ نقرأ سيناريوهات عن حروب إقليمية كبرى ستقع في المنطقة في الأسابيع أو الأشهر المقبلة. وفي المقابل تصوّر العدسات لقطات من اجتماعات ولقاءات وتفاهمات وتشكيل لجان أمنية مشتركة وزيارة استطلاعية ومصافحة في مرحاض الأمم المتحدة.
الأخبار الثلاثة التي وردت في يوم واحد صحيحة ولكنها ليست بالضرورة تعني الكثير من الأمور أو أنها وضعت القطار المؤلّف من غرف ثلاث (العراق، فلسطين ولبنان) على سكة الحل. ففي العراق يبدو الطرف العربي خارج الصورة. وفي فلسطين يبدو الطرف السوري (الإيراني أيضا) خارج الصورة. وفي مرحاض الأمم المتحدة يبدو الطرف اللبناني خارج الصورة. إلا أن خلاصة جمع الأخبار الثلاثة تشير إلى وجود الطرف الأميركي في الصور الثلاث. وهذا يعني في منطق السياسة أن واشنطن الضعيفة لاتزال الأقوى وهي تمسك بالأوراق الثلاث.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1784 - الأربعاء 25 يوليو 2007م الموافق 10 رجب 1428هـ