الخطبة التي قدمها الشيخ الجليل أحمد المحمود عقب صلاة الجمعة في جامع الحد الجنوبي، وإن اختلف في تأويل مراميها، إلا أنها جاءت جوهرا لتدعو إلى ترسيخ وتعزيز ولاء المواطنة لدى المواطنين في البلد من خلال ما أكدته من ضرورة منح الحقوق كاملة لمستحقيها، وتوفير سبل العيش الكريم والترفق بحال المواطنين حتى ينتظر الحصاد المرجو من تلك الرعاية، وهو الذي يتجسد فيما يقدمه المواطن من واجبات إلى دولته وإلى حاكميه وما ينغرس بداخله من حب وإخلاص وتقدير لهذا الوطن وقيادته.
ومثل هذه الدعوة لا يمكن لمعانيها مهما اختلفت السبل التعبيرية في تصويرها أن تخرج عن إطار الدعوة إلى تعزيز المواطنة عبر تفعيل معادلة الحقوق والواجبات المتبادلة بين الدولة ومواطنيها، وهي بلا شك دعوة تتطابق من خلالها عناصر الأصالة الشرعية والمعاصرة المدنية الحديثة، وتكون لبنة أساسية لا غنى عنها لأي تعاقد جماعي بين الفرد المواطن والدولة، أي بمعنى أنها ذات منطلق شرعي أصيل وفي الوقت ذاته ترنو إلى إطار مدني معاصر في تأسيس العلاقات بداخل الدول الحديثة، ولا يوجد عاقل يختلف عن تلك الثوابت الولائية الوطنية الرئيسية التي لابد أن تتعادل من خلالها مقادير الحقوق الممنوحة والواجبات المعطاة بداخل الدولة.
وهذه الدعوة بلا شك لم تأتِ عبثا غير محمود من قبل شيخنا الجليل، أو هي بدعة وابتداع يطيب لمتصيدي تلك البدع الحسنة قبل السيئة بهرطقات فقهية لا أول لها، بل هي تصريف متقدم وعريق للعلاقات بين المواطن والدولة معمول به في معظم دول العالم، ومعترف به ولو مبدئيا في جميعها!
فلا يمكن لأية دولة أن ترغم مواطنيها على تأدية واجباتهم الولائية تجاهها من دون أن تقدم إليهم حقوقهم الشرعية، وتعمل على الاهتمام بشئونهم وتوفير سبل وخطوات الرعاية الكريمة لهم وإفساح المجال لهم ولو نسبيا للمشاركة في صنع القرار والوعي بمجريات الأمور المصيرية فيما قد يؤثر على حاضر الدولة ومستقبلها ويمس جميع أبنائها.
لذلك فهي دعوة تترافق مع أولى أولويات الحكم الضرورية مهما بلغت من الصلاح حجما ومنزلة، كما أنها ترفد المشروع الإصلاحي الذي دعا إليه جلالة الملك، وبالتالي لا خلاف على حق المواطنين في مطالبة الدولة بتحسين أوضاعهم المعيشية، وهو ما لا يخرج عن صميم حقوقهم المكفولة دستوريا حتى يتسنى لهم إيجاد مقويات ومغذيات وحوافز تتيح لهم وتنهض بهم لتأدية واجباتهم تجاه الدولة والوقوف في صف وطني منيع تجاه كل الأخطار والأطماع المحدقة بالبلد والمهددة لأمنه واستقراره. فتكريس واقع الحرية والمساواة في الحقوق والواجبات هو وحده ما سيعزز من المواطنة ويقوي من ولاء المواطنين لوطنهم ولقيادتهم.
أما دون ذلك من ادعاءات ومطالبات وذر للرماد في العيون والآذان والأفواه فهو غير مجدٍ وغير كافٍ في التأسيس لمواطنة حقيقية، والترسيخ لممارسات الولاء الوطنية بمعانيها الجوهرية، فالمتعارف عليه هو أنه إذا غاب دور الدولة والمواطنة الاحتضاني والرعائي لمواطنيها يتسنى بروز الولاءات الأولية وتعزيز الشبكات المصلحية والانتفاعية بينها وبين الفرد كالولاءات الطائفية والقبلية وما تلقيه بآثار سلبية على تماسك ونمو واستمرارية تلك المجتمعات داخل قالب الوطن، ونتيجة لتعزز تلك الولاءات الرجعية فمن الطبيعي أن يجد أصحابها في قوى وتيارات إقليمية بارزة ذات هيئة انتمائية مشابهة مذهبيا وما سواها بمثابة المتنفس والأفق والحلم الروحي خارج حدود الدولة وأجوائها الإقليمية، وهو ما يساهم في زيادة عدم الاستقرار وتردي الأمور والتصادم بين الولاء للدولة والمحيط والحاضنة المثالية المتخيلة!
ولا مناصَ من تأكيد أن ما يخرج عن إطار تلك العلاقات الولائية المشتركة التي يتم من خلالها تقديم الحقوق وتلقي الواجبات، فهو بلا شك ولاء العبيد والإماء والسبايا، ومن دون قنوات الاتصال والمحاسبة والمساءلة والمناصحة الشرعية والضرورية يصبح الولاء ولاء للمرتزقة والانتهازيين والطفيليين كما شبّهه بذلك أحد رجال الدين في بيانه في إطار تِبيان موقفه بشأن هذه القضية.
فما الذي تغير وحدث حتى يتم توجيه تهمة خطيرة ومقشعرة للأبدان كتهمة «التحريض على كراهية نظام الحكم»، وذلك إلى شيخنا الجليل من قِبل النيابة العامة لمجرد أن قام بدوره في توجيه النقد المقرون بالنصيحة لولاة الأمر، وتوضيح وتِبيان رؤيته بشأن أسباب التخثر الولائي أو انعدام الإحساس بالولاء الوطني في الدولة ربما استشهادا بمسيرة الوقوف أمام السفارة الإيرانية احتجاجا على تصريحات شريعتمداري بصفتها حالة من الحالات الميدانية؟
هل هو سوء تقدير وتعيين بين النقد البنّاء والنصيحة والمساءلة من جهة والتهجم والتحريض والدعوة إلى الاحتراب من جهة أخرى أم أن توجيه أي نصيحة وسؤال ونقد للحالة العامة بين الدولة والمواطن قد بات أمراَ يستلزم التوريط القانوني والقضائي عبر إجراءات تهدد حق المواطن الدستوري في إبداء رأيه وأن يعبّر عنه بحرية مسئولة حتى يتسنى قتل نمو ونشوء أية بيئة صحية للنقد والمحاسبة والمساءلة الشعبية أم أن هناك خصوصية للمنابر الدينية التابعة رسميا إلى إدارة الأوقاف السنية، والتي تعد خطبة المحمود الأخيرة خرقا لها لكونها تلامس الواقع والاحتياجات المعيشية للمواطنين السنة أو الشيعة، فهذه المنابر لطالما عودتنا في غالبها على التسطيح بشكل كبير، ومارست دورا أشبه ما يكون بتخدير آلام جروحنا الواقعية بدلا من المناداة بتطبيبها وعلاجها، وهو ما يصدمنا بعقائدنا وشرعنا ذاته قبل جوهرية واقعنا المعيش عينه؟
فهل يراد للمؤسسات الدينية السنية أن تظل حبيسة أدراج فقه «الطهارة» و «الشعائر» وفقه ما تحت السرة وفوق الركبة، وغيرها من مسائلَ يكتفي كل الدين والشرع بها، ولا مانع بعدها أن يشيع بها خطاب طائفي مغرض شريطة ألا يحمل شرارة نهوض واستنهاض وطني مطلوب للمطالبة بالحقوق الشرعية؟
ربما الشيخ المحمود بذلك قد وقع في شر بدعة وهرطقة غير مقبولة حينما نظر بعمق إلى جذور الأزمات ومسبباتها ولم يكتفِ بملامستها سطحيا! فهذه المؤسسات والهيئات العلمائية حتى الدعايات الانتخابية يصعب على أفرادها والمنتمين إليها - أيا كان شكل الانتماء - النهوض التضامني كالجسد الواحد إذا ما أريد لأي عضو منها أن يصاب بالتعب والحمى، وإلا فما فائدة هذه المؤسسات والهيئات والرابطات الأخوية؟ وقبلها ما فائدة نواب الشعب، وخصوصا المنتمين إلى التيارات الدينوسياسية، إذا لم يقفوا وقفة حقيقية وجادة بعيدا عن التصريحات والمجاملات مع المواطن أيا كان وفي أي ظرف إذا ما انتُهِكت حقوقه وأخضع إلى ظرف ترهيب وتوريط؟
وربما كان من معتبر الصدف أن تصطدم الأوقاف السنية في الوقت ذاته بقضية النائب وخطيب الجمعة الذي تم إيقافه، وهو المتهم حسبما ورد من تصريحات لرئيس الأوقاف السنية في إحدى الصحف بأنه وجمعيته السياسية التي ينتمي إليها يسعون جميعا من خلال التصعيد الإعلامي إلى اقتناص وتحين الفرص لصيد الوظائف والتعيينات بدائرة الأوقاف، وأن قرار الإبعاد جاء لإيقاف هذا النائب الخطيب عن استغلال المنبر الديني للمصلحة الخاصة، والترويج لكتلته النيابية!
وكلنا يذكر كيف استُغِلت المنابر الدينية وانتُهِكت قداستها حينما سلطت للتهجم على سمعة المناضلين الوطنيين الشرفاء في هذا البلد أثناء فترة الانتخابات النيابية، وخصوصا في الدائرة الرابعة بالمحرق، وكيف أصبح النائب والخطيب خطيبا لجامع في ليلة وضحاها، وتعذر حينها صحافيا أنه أمر رسمي من الأوقاف.
فـ «الصارم البتار» الذي استُخدِم من قبل، وأشهر فوق منبر الجمعة ضد المناضلين الوطنيين الشرفاء المترشحين نيابيا يبدو أنه قد ارتد على أصحابه وحامليه، وكما يبدو لي أن من حفر حفرة لأخيه وقع فيها، وإن كان الحفارون «مطاوعة» والحفرة محفورة لـ «شيوعي» و «عَلماني» و «وطني»!
فمن الذي عيّن واستغل واحتضن تلك التيارات أصلا، ومن الذي قلدها شرف المنابر الدينية لتصول وتجول فيها سياسيا كما يشاء؟
هل انقلب السحر على الساحر؟ اللهم لا شماتة أبدا!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1784 - الأربعاء 25 يوليو 2007م الموافق 10 رجب 1428هـ