بدتْ محاولة الشيخ أنور فؤاد أبي خزام واضحة في كتابه «إسلام الموحّدين... المذهب الدَّرَزي»، فهو يسعى بلا أدنى مواربة لإثبات أن الدروز لايزالون ضمن حظيرة الإسلام على رغم ما يمكن أن يتمايزوا به من المسلمين في حدود الدائرة الأضيق مذهبيا أو سلوكيا، ويبذل جهده عبر كتابه لإقناعنا بالقبول بالآخر الإسلاميّ، من خلال السعي لمعرفته أولا عبر قنواته الشرعية التي تتمثل في نتاج «المذهب، الجماعة، المسلك» الفكري المكتوب بأيدي الأتباع قبل غيرهم من ذوي العصبيات/ الأهواء.
الدراسة الأكاديمية المعمّقة التي بحث فيها أبوخزام في المعتقد التوحيدي (المسمّى بالدَّرَزي قهرا) جاءت بتعبيره «نتيجة بحوث مكثفة دامت أكثر من عشر سنوات»، ولم يُخفِ كاتبها أنه يرمي من ورائها إلى «قراءة الدين برؤية إنسانية معاصرة ومحبَّة، وتقريب وجهات النظر بين مختلف الفِرَق»، مدّعيا «كشفها حقائق جوهريّة تكتب لأول مرّة عن الدروز، وبقلم من عاش تجربة الدروز الصوفية آخر مداها».
مؤلف الكتاب الشيخ أبي خزام من مواليد بيروت 1941، والمفارق أنه على رغم كونه عسكريا فإنه حائز الماجستير في الفلسفة (دراسات صوفية) والدكتوراه في الفلسفة (دراسات إسلامية)، كما أن له مجموعة من المنشورات التي تتمحور بشكل أساسي حول التصوّف باعتبار اتصاله بالمذهب الدرزي الذي يفضّل أتباعه تسمية «الموحّدين».
الكتاب الذي لم يُغفل المؤلف تعريفه أسفل عنوانه بأنه يصف الواقع الإسلامي والفلسفي والتشريعي، انطوى على كثير من المعلومات الفكرية والتاريخية التي تقرّب للقارئ الأجواء التي كانت حاكمة في تلك الفترة التي نشأت فيها الدعوة التوحيدية أيام حكم الفاطميين لمصر (القرن 5 هـ/ 11م)، وهو ما يفرض نظرة موضوعية أكثر إنصافا في محاكمة (إعادة) قراءة التاريخ.
بدأ الكتاب بتمهيد تاريخي لا غنى عنه، ثم تعرّض في بابه الأول للمرتكزات المعرفيّة في المسلك التوحيدي، متطرّقا إلى منابع اليقين التوحيدي والعرفان التوحيدي والحقيقة المحمدية والفكرة المهدوية، وأخيرا الإمامة بالمفهوم الشيعي وأعمدة التديّن الأصلية وعلم الحروف والأرقام. وفي الباب الثاني بحث في الجوامع النظرية والعملية المشتركة بين التصوّف والتوحيد.
وعنون المؤلف الباب الثالث بـ «الموحّدون وروح الإسلام... جدليّة الطوارئ والينابيع». وفي الباب الرابع تعرّض لخصوصيّات المسلك التوحيدي داخل البيت والهيكل العام له، خاتما بملاحقَ ووثائقَ وصور، وبمراجعَ تميّز فيها المؤلف بالعودة إلى مصادرَ ومخطوطات توحيدية عبّر عنها بـ «الينبوعية»، وبأن بعضها لم ينشر سابقا.
يصل المؤلف بنا - بعد كثيرٍ من العرض الفكري والتاريخي - إلى أن الموحّدين لمّا رأوا واقع المسلمين المتمزّق سعوا إلى ململة الشمل وتقويم الاعوجاج عبر نشر دعوة تنصهر فيها المذاهب على أصول واحدة، وعليه انطلقت الدعوة التوحيدية تحت مسمّى «الدعوة الهادية المهديّة» مطلع العام 408 هـ (1017م) على يد الداعي الأكبر حمزة بن عليّ الزوزني الخراساني لتوحّد الناس تحت راية الحاكم بأمر الله الفاطمي بوصفه نموذجا للحاكم العادل المتواضع الزاهد الذي افتقده تاريخ المسلمين طويلا، فهو أكثر المصاديق حضورا لشخص المنقذ (إسلاميا، كتابيا، دينيا)، وعليه باشرت الدعوة تنظيرها مستثمرة نواة الفكرة في الكتب الدينية حتى المسيحية منها، إلا أن «انحراف بعض الدعاة» (تأليه محمد البخاري الدرزي للحاكم بأمر الله مثالا) قاد إلى صراع مذهبي وخلافات عقائدية دامية؛ ما أفسد الفكرة التوحيدية؛ ودعا الدروز إلى التكتم، ودخول المهديّ والدعاة مرحلة الاحتجاب (الغيبة، السَّتر) بأرض الواحات، بعد أن أصبح الموحّدون مصدرا لغضب السنة والشيعة على حدّ سواء.
يقرّ المؤلف أن الدعوة التوحيدية لم تنطلق من فراغ، بل هي رُكام ضخم من الأفكار الغيبية التي تسرّبت بين الجماعات الشيعية الباطنية، التي لها أصولها وامتداداتها في الحضارة الإسلامية. والدعوة التوحيدية انبثقت عن الدعوة الإسماعيلية، ساعية إلى التوفيق بين جناحي «التنزيل والتأويل» مستفيدة من الإنتاج الإنساني، ناسبة نفسها إلى بعض كبار الصحابة (سلمان، المقداد، أبوذرّ، عمّار) الذين شكّلوا مصدرا أوليا لشرعية السلوك التوحيدي الصوفيّ الذي نشأ فيما بعد. هذا ولم يتمايز الموحّدون - بحسب المؤلف - بفرقة مستقلة من باقي الفرق باجتهادات خاصّة ومذهب خاص إلا بعد 400 سنة من بدء دعوة الحاكم بأمر الله.
ويَخْلص المؤلف إلى أن مذهب التوحيد الدرزي مذهب إسلامي صوفيّ بالنظرية والتطبيق، وهو في قلب الإسلام فقها مع بعض الخصوصيات، وأنه خاض تجربة لاستنقاذ الأمة لم يكتب لها النجاح؛ بسبب صراع دعاتها على جوهر المعتقد ما ضيّع على دعاتهم «العقّال» الفرصة.
العدد 1784 - الأربعاء 25 يوليو 2007م الموافق 10 رجب 1428هـ