ربما يكون موضوع «الولاء» هو العملة الأكثر رواجا في البحرين هذه الأيام ومنذ سنوات، وسيظل كذلك لفترةٍ قد تطول مادام هناك مَنْ يستنفع منه كالبقرة الحلوب.
والولاء مصطلحٌ كاسدٌ لا يُتداول خارج المنطقة العربية، فلن تسمع أحدا أو تقرأ مقالا في الولايات المتحدة أو كندا أو النرويج أو نيوزيلندا، يتكلّم عن الولاء، حتى أصبح صنوا للوطنية، فيُمنح لمن يشاء ويُمنع عمّن يشاء. ولكنك بالمقابل ستصاب بالصداع لكثرة ما تسمعه فوق المنابر أو تقرأه في الصحف العربية.
هذا المصطلح المستَهْلَك حتى الابتذال، لن تعثر عليه في الفترات المشرقة من تاريخنا الإسلامي، ولن تجد أحدا من الخلفاء الراشدين مَنْ طالب الناس بإعلان الولاء الشخصي لنفسه. فالرسالة المحمدية الجديدة افتتحت عهدا نورانيا تجاوز العلاقات القديمة القائمة على النسب والتبعية لسيد القبيلة، وحوّل الولاء إلى قيم الحق والعدل والصلاح والإصلاح.
من هنا، فإن ما أثاره حديث الشيخ أحمد المحمود من ردود فعل يوم الجمعة الماضي، يعيدنا إلى المربع الأوّل في مناقشة الموضوع من الأساس. فالشيخ حتى لو لم يعترض عليه إلاّ شخصٌ واحدٌ كما قال في بيانه المنشور أمس، إلاّ أنه وقع في عدة أخطاء.
الخطأ الأوّل أنه انطلق من فرضيةٍ خاطئةٍ بأن مقياس الولاء هو الحضور أمام السفارة الإيرانية للاحتجاج على مقال شريعتمداري، وهو بهذه الحسبة يحكم بالولاء لـ 150 شخصا فقط من مجموع 750 ألفا، ويحرم بقية الشعب من هذه الفضيلة، بكل شيوخه وجمعياته ومثقفيه وتجّاره وعامته وخاصته... علما بأن الشعب قال كلمته الحاسمة قبل وبعد التجمع، بما لا يحتمل رطلا إضافيا من المزايدات.
الخطأ الثاني الذي وقع فيه المحمود، انه افترض شعب البحرين قطيعا من الامعات، يحتشد بمسجاتٍ هاتفية أو بإشارةٍ من إصبعٍ مجهول، وفي ذلك إساءةٌ للبحرينيين سنة وشيعة، خصوصا أن الناس تدقّق في هويات الداعين هنا وتسأل عن الأسماء، فإذا فاحت رائحة التمصلح السياسي، فلا تتوقع حضورا يزيد على الـ 150، علما بأن الذاكرة البحرينية تجيد توصيل الخيوط والربط بسرعةٍ بين أبطال «التقارير المثيرة للجدل».
الخطأ الثالث، افتراض الشيخ أن الولاء سلعةٌ معروضةٌ للبيع، بقوله إن «الولاء للوطن أو للحاكم يشترى ولا يوهب بدون مقابل»، وهو مفهومٌ لا نقبله على الإطلاق؛ لأن الوطن عندنا لا يقبل البيع ولا الشراء. ربما يتكلّم الشيخ عن واقعٍ يعيشه ويراه ويعرفه أكثر منّا، وربما لديه خبرات وتجارب في الحياة تزوده بقوائم مَنْ يتاجرون بالولاء، إلاّ أن هذا الطرح يعزّز في النهاية السياسات الخاطئة التي ينتقدها، والتي أوصلت إلى هذا المستوى من الحاجة والفقر، بحيث بات البحريني يشعر بالغربة في وطنه.
البحرين ليست بحاجةٍ إلى تعويم «عملة الولاء»، ولا الاستمرار في لعبة المزايدات على حساب بعضنا بعضا، أو استغلال الفتن العابرة لاستدرار المصالح واستحلاب الأموال. البحرين بحاجةٍ إلى أن تتجاوز في علاقاتها السياسية الولاءات القبلية الضيّقة إلى فضاء الولاء الوطني، الذي لا يزايد فيه مواطنٌ على مواطن آخر، ولا يشكّك في وطنيته ، أو يطالبه أن يُثبِت حبّه لبلده مرتين يوميا، مرة عندما يستيقظ من النوم، ومرة عندما يأوي إلى الفراش!
الولاء للوطن ليس رقصة شعبية فلكلورية أو قصيدة مدح، والولاء لا يشترى بزيادة الرواتب، وإنما بتعميق مفاهيم العدالة والمساواة والحقوق والواجبات في دولة المؤسسات والقانون. وأخيرا... الوطن ليس شيكا خاضعا للمقايضات في سوق المقاصة السياسية... فمتى... متى نفيق؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1782 - الإثنين 23 يوليو 2007م الموافق 08 رجب 1428هـ