توجّه أمس أكثر من 42 مليون من الناخبين إلى صناديق الاقتراع في تركيا لاختيار نواب البرلمان. وتعتبر الدورة الحالية المبكرة الأهم؛ لأنها تمهد الطريق لإعادة ترسيم شخصية الدولة التي وضع قواعدها الدستورية الأولى مؤسسها كمال أتاتورك قبل 83 سنة. فالانتخابات ليست عادية من جهة تأثيرها على التكوين الثقافي للدولة «العلمانية» ومدى صلتها من جهة أخرى بالمجتمع المسلم.
مشكلة تركيا ليست استثنائية على هذا الصعيد في المنطقة العربية والعالم الإسلامي. فالنموذج الأتاتوركي تأسس في ضوء تداعيات انهيار السلطنة العثمانية بعد انقلاب جمعية «الاتحاد والترقي» في العام 1908 وعزل السلطان عبدالحميد الثاني في العام 1909 وما جرى لاحقا من تحوّلات فرضتها نتائج الحرب العالمية الأولى. والأتاتوركية لم تظهر فجأة من فراغ وإنما تطوّرت زمنيا مستفيدة من ضعف السلطنة التي انكمشت جغرافيا وتراجع موقعها في قيادة السياسة الدولية بعد انكسار نفوذها في أوروبا الشرقية وتشوه هيبتها في المنطقة العربية.
الأتاتوركية إذا هي نتاج انهيار وليست نتيجة تطوّر. والدولة «العلمانية» التي تأسست بعد الحرب العالمية الأولى نهضت على قاعدة الانقسامات «الاقوامية» و»اللغوية» و»المذهبية» التي مزقت الفكرة الإسلامية وما تعنيه من وعاء حضاري يحضن الاختلافات على قاعدة رابطة الدين. وبهذا المعنى التاريخي شكّلت الاتاتوركية ردة فعل على نموذج حضاري وصل في مطلع القرن العشرين إلى أفق مسدود بعد فشل كل المحاولات الإصلاحية التي جرت في القرن التاسع عشر.
ردة الفعل هذه كانت أسوأ ما أفرغته الأتاتوركية من سلبيات ضد الإسلام وحضارته وتجربته الإنسانية المديدة والغنية بالعمران والمعارف. وبسبب الانفعال الأتاتوركي توجهت «الكمالية» إلى سياسة القطع مع الإسلام وإدارة القبلة من الاتجاه العربي - المسلم إلى أوروبا.
اعتماد كمال أتاتورك أسلوب القطع أدى إلى تقطيع أواصر العلاقة مع تاريخ تركيا الإسلامي بذريعة أن الماضي يعطل إمكانات التطوّر ويعرقل خطوات الدولة باتجاه أوروبا «القومية» و»العلمانية». واعتقد أتاتورك أن الإسلام يمنع تركيا من التقدّم وبالتالي فإنّ قيام الدولة العسكرية بالانقلاب على الدين يسهل المهمة «الحضارية» ويدفعها بسرعة باتجاه «الرقي» والتقدّم نحو أوروبا واللحاق بحضارتها.
أدّى هذا النوع من التفكير الانقلابي إلى تأسيس سلسلة أوهام أيديولوجية قادت تركيا إلى حال من انفصام بين الدولة والمجتمع ،الأمر الذي زعزع لاحقا الشخصية الحضارية لبلد كان له موقعه المميز في التوازن الدولي.
فكرة الانقلاب على المجتمع جعلت الأتاتوركية تتجّه نحو الاعتماد على الجيش وتحويله إلى مؤسسة مستقلة تشرف على إدارة الدولة وتقودها بهدف تكوين ثقافة بديلة عن الإسلام. وبما أن ثقافة الإسلام عميقة الجذور وممتدة جغرافيا وتاريخيا لجأ أتاتورك إلى القمع والملاحقة والمطاردة والاضطهاد لاقتلاع تلك الثقافة من الجذور. وكانت النتيجة المنطقية لهذا النوع من السلوك الانقلابي تأسيس هوة بين دولة «حديثة» و»معاصرة» و»عسكرية» وبين مجتمع «قديم» و»تقليدي» و»متدين». وأدّى اتساع الهوة إلى نشوء نوع من الانقطاع بين المجتمع المسلم والدولة العلمانية أعطى فرصة لنمو مقاومة شعبية تمانع تلك التغييرات الفوقية وترفض التجاوب مع سياسة «تغريبية» تمسخ شخصية حضارية متوارثة.
وزاد الطين بلة أن تركيا الأتاتوركية فشلت في تحقيق ذاك التقدم المطلوب حتى تكون على سوية واحدة مع أوروبا. فالدول الأوروبية استمرت في التعامل معها بصفتها دولة آسيوية - مسلمة تشكل خطرا عليها مهما حاولت تغيير سلوكها وعاداتها وعلاقاتها. ولعبت الذاكرة الجمعية الأوروبية دورها في تحصين رؤيتها المضادة للتجربة الأتاتوركية ومنعتها من الانخراط في دورة حياة لا تنسجم مع روحية الإسلام. وهكذا خسرت تركيا موقعها ودورها وقيادتها آنذاك للعالم العربي - الإسلامي ولم تكسب في المقابل الموقع البديل في العالم الأوروبي - المسيحي.
الفشل المزدوج
هذا الفشل المزدوج داخليا (عدم قدرة الدولة على تغيير هوية المجتمع) وخارجيا (امتناع أوروبا عن تعديل رؤيتها للحضارة التركية) عزز نزعة الاستبداد الأتاتوركي ودفع الكمالية نحو المزيد من الاعتماد على الجيش بصفته المؤسسة الوحيدة القادرة على حماية العلمانية من الناس وتطلعاتهم السياسية. وحين رحل أتاتورك ازداد التوتر الأهلي بين قوة سياسية حديثة تتسلح بالجيش للانقضاض على المجتمع وتطويق خياراته المضادة وبين شبكة علاقات أهلية تقليدية نجحت في تشكيل مراكز قوى اجتماعية تتمسك بالموروث وترفض التخلّي عنه.
أدى هذا التوتر الأهلي إلى منع تجسير العلاقة بين الدولة والمجتمع وعطل إمكانات المصالحة بين الطرفين. فالجيش (مجلس القيادة) يعتبر نفسه حتى الآن المؤسسة المكلفة دستوريا بحماية الجمهورية والعلمانية، والمجتمع (الأحزاب والشبكات الأهلية) لايزال يدافع عن هويته التاريخية ويرفض التخلّي عنها. وساهم التعارض بين القوتين المتجاذبتين في إطلاق انتفاضات وحركات تمرد في الشارع مقابل سلسلة انقلابات عسكرية قادها الجيش مرارا في الخمسينات والستينات والسبعينات وصولا إلى تسعينات القرن الماضي لمنع الإسلاميين من الوصول إلى السلطة أو على الأقل تعطيل إمكانات تعديلهم للدستور؛ ليتناسب مع شخصية المجتمع وهويته الحضارية.
عشرات الانقلابات وحركات التمرد يمكن تسجيلها كأمثلة حيّة في تاريخ تركيا المعاصر للدلالة على ذاك المأزق الذي بدأ تأسيسه في مطلع القرن الماضي ومضى في طريقه السياسي إلى أن وصل إلى حائط مسدود. فتركيا بعد أكثر من 83 سنة على إعلانها دولة «جمهورية» و»علمانية» و»أوروبية» لاتزال في جوهرها الثقافي «عثمانية» و»إسلامية» و»آسيوية». وهذا ما يمكن ملاحظته ومتابعته من خلال المشاهد الأخيرة التي ظهرت على شاشات التلفزة وأوضحت بشكل مكشوف عمق تلك الأزمة التي كادت أن تمزق البلد بين رئاسة علمانية مدعومة من المؤسسة العسكرية وبرلمان شعبي يسيطر على غالبية مقاعده حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي.
الانتخابات المبكرة التي جرت أمس يرجح أن تكون الأخطر في تاريخ تركيا بعد رحيل مؤسس دولتها (الجمهورية العلمانية) كمال أتاتورك. فالانتخابات ولدت استقطابات «أيديولوجية» وانقسامات سياسية تجاوزت مسألة الإصلاحات الاقتصادية والتنمية الاجتماعية واتجهت مباشرة نحو الهوية والشخصية الحضارية وصلة تركيا بالمحيط العربي والجوار الإسلامي. والخلاف الذي نشب بين المجلس العسكري والحزب الإسلامي على رئاسة الجمهورية جدد طرح السؤال بشأن هوية الدولة ومدى نجاح الأتاتوركية في تجربة قاسية فشلت في تحويل المجتمع ونقله من آسيا إلى أوروبا كذلك لم تستطع قطع ذاكرة التاريخ ومنع تواصل الناس مع محيطهم الجغرافي والثقافي.
انتخابات أمس في تركيا مفصلية ؛لأنها تحمل معها أجوبة راهنة لمأزق تاريخي. فهل ينجح الحزب الإسلامي في استعادة الهوية أو ينقلب الجيش على المجتمع ويفرض عليه خيارات فوقية؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1781 - الأحد 22 يوليو 2007م الموافق 07 رجب 1428هـ
تحليل واقعي جدا ..
اتمنى من حضرتككم كما قراتم المشهدا في 2007 اظن ان المشهد لازاال لم يكتمل الصورة بعد , فهل لكم توقع لما سيجري في الايام القادمه
ولكم كل الشكر