لابد أنكم تتذكرون معي تلك الحوادث الجسيمة التي مرت علينا في مثل هذه الأيام قبل نحو عام من الآن وتتذكرون مثلي كم كانت الأمة العربية والإسلامية متوحدة ضد العدوان الهمجي على لبنان في جمهورها العريض من «الغلابة» أي عامة الناس وكيف أنها وقفت من أعالي الأطلسي إلى أقاصي أرخبيل الجزر الإندونيسية وراء من وصفوا يومها «برجال الله في الميدان» كما جاء على لسان شاعر المقاومة العربي السوري الكبير عمر الفرا، يحيونهم ويطلبون منهم المزيد من الصمود والرد على التحدي بتحد أكبر وفعلوا فعلا وصدق وعدهم، وغيروا معادلات الحرب والسلام!.
تتدافع الصور اليوم في وجدادننا بشكل عجيب ونحن نتذكر تلك الأيام الوجدانية الفريدة من نوعها! إن من يتذكر عدوان تموز الماضي على لبنان جيدا يبدو من الصعب عليه بمكان أن يجمع كل جوانبها وأبعادها المتناقضة في لوحة واحدة، اللهم إلا أن يكون فنانا من العيار الثقيل! فالصور التي ظهرت في تلك الأيام بقدر ما كانت عصيبة ومحزنة وموحشة وموغلة في الآلم بقدر ما كانت مثار فخر واعتزاز وموغلة بالنشوة والانتصار، نعم النشوة والانتصار!.
صحيح أنها حرب عدوانية وحشية قذرة من العيار الثقيل لا نريد لها أن تعود ولا نتمناها لأي من أقطارنا العربية والإسلامية أيضا، لكننا لا نستطيع مطلقا أن نمر عليها مرور الكرام كأي حرب وحشية أخرى سبقتها أو ننكر الجانب المضيئ من الواقعة التاريخية الذي يلح علينا اليوم بقوة ويكاد يدخل إلى كل بيت من بيوتنا من دون استئذان إلا وهو الإحساس «اليقيني بـ «حتمية» الانتصار منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب لدى تلك المجموعة الصغيرة و»القليلة» في العدة والعتاد على المعتدي المدجج بكل أنواع الأسلحة والدعم والإسناد العالمي والذي كان بالمقابل «متيقنا كل اليقين» بأن حربه المفتوحة كما أعلنها لن تنتهي بغير إلحاق الهزيمة الماحقة بتلك المجموعة التي تجرأت، على كل الأقوياء العالميين مجتمعين!.
«إنهم فتية أمنوا بربهم وزدناهم هدى» (الكهف:13)... هم بالتأكيد بشر مثلنا لكنهم من معدن مختلف! لقد أعاروا الله جماجمهم منذ اللحظة التي اختاروا فيها طريق المقاومة ولم يعيروها لأحد غيره مهما علا شأنه حتى قائدهم «المفدى» فكانوا هم وإياه على قدم المساواة في التخطيط و»التنظير» كما في البذل والعطاء! لا يفرق القادم إلى زيارتهم - وهم متحلقين حول بعضهم بعضا - بين الجندي وبين القائد! حتى يكاد المرء يتذكر من سبقوهم على هذا الطريق من الرعيل الأول إذ كان القادم إليهم باحثا عن نبيهم يقول قولته الشهيرة: «من بينكم محمد؟!».
إن معدن هؤلاء الفتية هو من معدن الخليفة الرابع للمسلمين الإمام علي (ع) وهو القائل ردا على سؤال كيف كنت تنتصر على أعدائك في الحرب؟ فأجاب: «عندما أكون أنا ونفسه عليه»! إنها الذروة في علوم الحرب النفسية. أليس كذلك؟ فقد كان رجال الله الذين انتصروا في الميدان ولايزالون متمسكين بالنصر كما باليقين بالانتصار مرة آخرى في حالة أي حرب جديدة أو عدوان جديد تلامذة هذه المدرسة النموذجية التي لا ينفد عطاؤها مهما عصفت الأيام وتقلبت الدهور!.
أليس قائدهم الجديد هو الذي حسم المعركة منذ اليوم الأول لا بل حتى قبل أن تنطلق شرارتها عندما «جزم» لجمهور العامة من معسكر الخصم بأن معركتهم ستكون خاسرة وأنهم سرعان ما سيكتشفون بأن قيادتهم هي «الأكثر غباء وحماقة وجهلا وقلة اطلاع في تاريخ دولة «إسرائيل»...؟ وهو ما أكدته لجنة فينوغراد التي شكلت على خلفية الفشل الذريع بعد عدة شهور من «نبوءة» السيد!.
أليس قائدهم الجديد هو ذلك الفارس العربي الوحيد المتبقي في عصر «الزمن الرديء» الذي ظهر على الهواء مباشرة وهو يؤكد ويكرس «النصر بالرعب» مبكرا ومن على شاشات التلفاز الذي كان يشد العشرات من الملايين في تلك الأيام الصعبة وهو يقول: «المفاجآت التي وعدتكم بها سوف تبدأ من الآن الآن في عرض البحر في عرض البحر في مقابل بيروت... البارجة الحربية العسكرية الإسرائيلية التي اعتدت على بنيتنا التحتية وعلى بيوت الناس وعلى المدنيين... انظروا إليها تحترق وستغرق ومعها عشرات الجنود الإسرائيليين الصهاينة... هذه البداية وحتى النهاية... كلام طويل وموعد والسلام عليكم ورحمة الله...»!.
ألا يحق لنا أن نسجل هذا اليوم على أنه من الأيام النادرة من الأيام في تاريخ العرب والمسلمين الذي يركع فيه العدو التاريخي لأول مرة صاغرا ويذعن للحقيقة المرة بأن تغرق «ساعر» وتتحطم الميركافا على أيدي رجال الله في الميدان، ممن لا يملكون من السلاح والذخيرة والزاد الوفير من دنيا الجبابرة والاغنياء وقادة الحروب إلا التقوى والزهد لا سيما دنيا الجاه والسلطان، يقتسمونه بالتساوي والعدل بينهم وبين قائدهم السيد حسن نصر الله؟!.
أليست هي الذروة في اليقين بأن من يقودهم من رجال الله إنما هم من معدن الرجال الذين إذا أرادوا أراد الله... رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه... رجال يستحقون أن نحتفي بهم ونفخر بهم وأن نرفع هامتنا بهم وأن نقف إجلالا واكبارا لهم لا بل أن نقبل رؤسهم التي رفعت كل رأس ونقبل أقدامهم المنغرسة في الأرض، الأرض التي هم ملحها وهي المملوحة بمعدنهم؟!
إنهم رجال الوعد الصادق الذين تمر اليوم الذكرى السنوية الأولى على انتصارهم المدوي على «الجيش الذي لا يقهر»! ولما تنتهي الحرب المفتوحة ضدهم من قبل «الصديق» قبل العدو!.
أليست مفارقة لا يمكن أن يصورها إلا فنان من العيار الثقيل، بات معدنه نادرا في هذا الزمن العجيب؟!
إنه زمن تتقاطع فيه الأزمان بامتياز حيث تتدافع فيه من هم في عداد رجال الله الذين تخر لهم الجبال إجلالا لقدرة الخالق في تكوينهم على صورته حتى ليوصفوا بالمعادن النادرة التي تتجلى فيهم القيم المعنوية والمادية مع «رجال» يكرهون الانتصار والمجد وصعود الجبال ولا تنتهي حياتهم إلا بين الحفر مخافة مجابهة العدو في الميدان، وآخرين يفضلون السكوت و»السترة» على فتات ما تركه طلاب الحروب وناهبو ثروات الأمة من الأعداء، إنه زمن العجائب الذي لن يرحم أحدا عندما يأتي من بعدنا من سيكتب التاريخ ليسجل فيه كيف استطاعت فئة قليلة آمنت بربها ووثقت أن باستطاعتها أن تغير مجرى التاريخ ومعادلاته فنالت الحسنيين أي النصر والشهادة وفئة آخرى «كبيرة» في العدة والعديد! ظلت تفاخر وتراهن على القوى الكبرى والامبراطوريات ولم تنل نصيبها من فتات الدنيا الموعودة في شيء فضلا عن خسرانها للآخرة المنسية في حساباتها!.
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1780 - السبت 21 يوليو 2007م الموافق 06 رجب 1428هـ