العدد 2264 - الأحد 16 نوفمبر 2008م الموافق 17 ذي القعدة 1429هـ

فَوْزٌ خُلاسِي.. والعَالَمُ يَنْتَظِرُ العِنَاقَ بَدَلَ الخِنَاق

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قبل ظهور نتائج الانتخابات الأميركية قررت أن أكتبَ وأرجم بالغيب. كتبتُ وروحي معلّقة بطرف خيط. قلت: إن باراك أوباما لن يفوز. ليس لأنه كان يتعاطى المخدرات أو لمخالفة عمّته الكينية لقوانين الهجرة الأميركية وإنما لكونه زنجيّا، وفي أحسن الأحوال الوصفية «خُلاسي».

ضمن هذه النتيجة المفترضة كنتُ أجد نفسي أمام مشهدين. الأول هو الطبيعة المجتمعية للولايات المتحدة. والثاني صلابة التمثيل الفردي البعيد عن مؤثرات الضغط. فهما يُشكلان بوصلة ناجزة لتحديد هوية أميركا.

اليوم وبعد أن أفضت المعركة الانتخابية بالرئاسة إلى أحضان هذا الرجل بدا أن المشهد هو ليس بين منزلتين كما كان يُعتقد؛ وإنما تجاوز ذلك ليتحول إلى منزلة حقيقية مستقلة؛ تمثّلت في صياغة سيكولوجية جديدة للنورمانديين، أو الجنس الأبيض.

فالرجل الأسود ليس تاريخ اضطهاده ببعيد. ومشاهد ذلك التاريخ لا تحتاج إلى أكثر من نصف استدارة لكي تراها العين المُجرّدة. والأكثر من كل ذلك هو أن ذلك الفوز ليس انتصارا في معركة فقط؛ وإنما انكشاف لعقيدة بالية بدت وكأن التعويل عليها جنون أو تقليد بائس.

في الولايات الحمراء التي هي مُلكٌ عضوض للجمهوريين شَرَخَ باراك أوباما ذلك المُلك هادّا بأركانه دون رحمة. ففي ولاية فرجينيا حقّق فوزا بـ 52 في المئة مقابل 48 في المئة لماكين. وفي فلوريدا بـ 51 مقابل 49 في المئة. وفي أوهايو 51 مقابل 47 في المئة. وفي نيوهامبشير 55 مقابل 44 في المئة. وفي كولورادو 53 مقابل 45 في المئة. وفي آيوا 54 مقابل 45 في المئة. وفي نيوميكسيكو 57 مقابل 42 في المئة. وهي ذات الولايات التي فاز بها بوش في انتخابات 2002 ضد آل غور و2004 ضد جون كيري.

في هذا الفوز المُؤزّر بدت الحوادث صالحة للتندّر اليوم. ففي هذه الانتخابات أصبح إقبال الكتلة الناخبة الأكبر منذ العام 1908. وهي أطول معركة انتخابات في التاريخ الأميركي (21 شهرا) وأكثرها كلفة. وفيها صوّتت لأول مرة منطقة ديكسفيل نوتش بنيوهامبشير منذ العام 1968.

وهي الانتخابات الأولى أيضا التي يفوز فيها رجل أسود بمنصب الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية. والأولى التي يُعبّر فيها شعب غير الشعب الأميركي (الكيني) عن فرحته بفوز رئيس أميركي منذ فوز جون كنيدي الذي رقص من أجله الأيرلنديون لأنهم كانوا يعتبرونه من لحمهم.

وهي أيضا الانتخابات الأولى التي يفوز فيها شخص برئاسة الولايات المتحدة وهو يحمل ضمن اسمه الثلاثي اسما ذي دلالة إسلامية (حسين) ولديه عائلة مُوسّعة بها ثمانية أفراد، توزّعت ما بين جدّة مُسلمة (سارا) وعمّ مسلم (سعيد) وعمّة مسلمة (مرسات) وأخ غير شقيق اسمه (صادق).

في هذه الانتخابات أسال الجمهوريون حبرا هائلا لتشويه صورة أوباما. قالوا إن مسيحيته غير مكتملة، وإنه حليف وثيق لليساري السابق وليام آيرز. وإنه حليف غير معلن للإرهابيين، وسيحّول البلاد الأميركية إلى مسلخ كبير يضيع فيه الأمن، وتزدهر فيه الخلافات.

أوباما هو الآخر بالغ في استفزاز خصومه بشكل لا يُصدق. فهو لم يتنكّر لعائلته وأصوله الإسلامية. أو لِما كان يعتمره من ملابس تحاكي ثقافة الشرق بأديانه غير المسيحية. بل إنه زاد من إيلامهم عندما اختار مركز الاقتراع الذي يصوّت فيه زعيم أمة الإسلام لويس فرخان واليساري الأميركي وليام آيرز لكي يُدلي بصوته هو وزوجته فيه.

أمام كل ذلك أصرّ الناخب الأميركي أن يقول كلمة مختلفة، جعلته يتجاوز إرثا تقليديا في التعاطي مع الأحداث الداخلية والخارجية. بل إن ما جرى قد دلّ على أن الشعب الأميركي يحمل من الهموم الداخلية ما يكفي لكي يُغيّر من أجلها كل شيء، دون اعتبار لما كان البعض يظنّ بأن لها وجاهة آيدلوجية أو قومية.

اليوم وبعد انتخاب باراك أوباما (أو المبارك من الله حسب توصيف جدته لمعنى اسمه) يصبح الدفع قويا نحو إعادة التعريف بالهوية الأميركية وبأعراقها الزنجية واللاتينية والعربية وغيرها من الأعراق. وأيضا إعادة تعريف بالنظرة الأميركية للعالم ولأزماته، والانتقال من يمين الوسط إلى يساره.

واليوم أيضا سيشهد التاريخ أكثر من شهادته لأي أمر آخر أقل مما جرى. وكما قال أحد الكرادلة، إن ما جرى يوازي هبوط أول إنسان على سطح القمر، وإن الباب بات مفتوحا أمام تعيين بابا فاتيكان أسود يخلف البابا بينيديكت السادس عشر.

لقد تجاوز الأميركيون عقدة العرق بأقوى درجاتها. فمن مرحلة حظر دخول السود والكلاب إلى المحلات التجارية وركوب الحافلات إلى وصول أحد أؤلئك الممنوعين إلى سدة الرئاسة. إن ما جرى هو فعلا زلزال كبير.

وقد يُقدّم الأميركيون للأوربيين أفضل درس في كيفية هضم الأعراق والأجناس. أوروبا التي فصلت نفسها عن الكنيسة من دون تنظيم لعلاقة الأرض بالسماء، لكنها احتفظت بأسوء ما يُمكن أن يحتفظ به اليميني المتطرف في نظرتها للأديان، وفوبيا الزحاف ببينها عندما طُرِح موضوع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي.

لقد بيّنت هذه الانتخابات أن مئة ألف شخص في 800 جماعة معنية بالدفاع عن الأميركيين البيض في الولايات المتحدة لم يعد لهم وجود بين الشعب الأميركي. وأن ما يُمارسونه لا يعدوا كونه شوفينية حمقاء لا يوجد لها مقعد بين مُكوّنات الناس هناك. وأن الثمانية عشر مليون دولار التي أنفقتها جمعية السلاح الأميركية ضد حملة أوباما ما هي إلاّ صراخ مبحوح لكانتونات عرقية متطرفة، مازالت تتثاقل شحومها داخل نرجسية مفترضة وتُسبّح ليل نهار بعيد الشكر على نحو فج.

اليوم تصبح المسئولية على باراك أوباما كبيرة عندما يعقد العزم على إزالة ما تبقى من هموم زنجية داخل المجتمع الأميركي. من السجون إلى الجيش إلى المراكز الحسّاسة في الدبلوماسية الأميركية. لأنها خطوة ستزيد من نصاعة ما جرى في واشنطن

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2264 - الأحد 16 نوفمبر 2008م الموافق 17 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً