تبدأ اليوم في المنامة ندوة اقتصادية على غرار منتدى دافوس العالمي يشارك فيها نحو 200 شخصية مالية وتجارية وتنموية للبحث في مجالات الاستفادة من أزمة النقد وتحصين المنطقة من تموجاتها. وغدا تنظم غرفة التجارة والصناعة ندوة لدراسة الأزمة المالية العالمية وتداعياتها على الاقتصاد البحريني. وأمس أختتمت في الدوحة ندوة نظمتها «منظمة العمل العربية» ناقشت خلال جلساتها وسائل التنمية والتشغيل التي تحتاجها دول المنطقة للحد من البطالة وتحسين ظروف العمل وشروطه في إطار تنمية عربية مستدامة.
كل هذه الأنشطة واللقاءات جاءت في خضم أزمة الأسواق التي ضربت البورصات العالمية وهددت المصارف بالانهيار وأثارت مخاوف بشأن العقارات والتأمينات ورفعت من نسبة القلق عن احتمال دخول العالم فترة ركود تؤدي إلى انكماش التجارة الدولية وتقلص الطلب على النفط والغاز وبالتالي توسيع قاعدة العاطلين عن العمل أو الباحثين عن فرص جديدة للاستثمار والتوظيف.
ارتفاع درجة المخاوف من الآثار السلبية المحتملة دفعت الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى إلى مطالبة الجهات العربية المسئولة للتحرك قبل فوات الأوان وحثها على ضرورة إعادة النظر في المشروعات والبرامج في ضوء تداعيات الأزمة المالية واحتمال انكماش الاقتصاد العالمي في الشهور المقبلة.
التحرك العربي الذي اشتدت حرارته بعد الأزمة بدأ قبل انفجارها بسبب نمو مخاوف من احتمال تكرار تلك المشكلات الدورية في أميركا وأوروبا التي تؤدي دائما إلى تآكل قيمة الأموال وعدم الاستفادة من تراكمها والتأخر في استثمارها وتشغيلها لحماية التنمية وتأمين مصادر رزق للأجيال المقبلة.
فكرة توظيف الرساميل وتحريكها في الأسواق العربية بدأ العمل عليها قبل الأزمة ويرجح أن تكون مدار بحث الدول العربية في القمة الاقتصادية التي يخطط منذ فترة لعقدها في الكويت. والتوقعات المرجوة من قمة الكويت الاقتصادية أخذت تتحسن بعد أن انكشف قناع الأسواق العالمية وتبهدلت كل تلك النظريات «الرأسمالية المعاصرة» التي جرى ترويجها إعلاميا منذ تسعينات القرن الماضي وتبين في المحصلة الميدانية أنها مجرد فقاعات تتبخر بمجرد اصطدامها بعقبة غير مرئية.
هذه النظريات التي جرى طبخها على عجل بعد تفكك المعسكر الاشتراكي واعتمدت قاعدة «السوق المفتوحة» للاقتصاد الحديث أخذت تتعرض للنقد كما ظهر الأمر خلال جلسات القمة الاقتصادية التي دعا إليها الرئيس جورج بوش في واشنطن وحضرها 20 زعيما في العالم. فالقمة التي أنهت أعمالها أمس الأول توصلت إلى قناعة مبدئية تشجع على مراجعة الكثير من الأفكار والملفات لتجنيب الاقتصاد من هزات مالية دورية.
المراجعات التي وردت في «إعلان واشنطن» ليست كافية لاحتواء الأزمة العالمية ولكنها أعطت إشارة واضحة تدل على استعداد أميركي لتقبل بعض التصحيحات من دون أن تتخلى الولايات المتحدة عن سياسة السوق وآلياتها الخاصة. فالتراجع الأميركي كان محدودا ولم يتجاوز تلك الخطوط الحمر التي تتطلب تقبل فكرة تدخل «الدولة» والمصارف المركزية لحماية السوق نفسها من عشوائية الآليات وتلك الفوضى الدورية التي تضرب بورصات العالم.
«إعلان واشنطن» تجنب الدخول في موضوع «الحمائية» حتى لا يحرج الرئيس بوش الذي أصر في خطابه الافتتاحي على التحذير منها ولكن «الإعلان» الذي صدر عن «قمة دول العشرين» وضع خطة عمل تبرمج الخطوات القادمة لمنع تكرار الأزمات والانهيارات المالية. فالقمة رسمت خريطة طريق تتحرك في إطار جدول زمني تنتهي مدته في 31 مارس/ آذار المقبل وهي فترة كافية لاختبار مدى نجاعة المبادئ الخمسة التي توافق عليها زعماء الدول للخروج من المأزق. والمبادئ التي توصلت إليها القمة شكلت نقطة تقاطع بين أميركا والمجموعة الأوروبية بعد أن كادت الخلافات على تحديد الأسباب وتقدير خطورة الأزمة واحتواء نتائجها والأساليب المفضلة لمعالجة تداعياتها أن تعطل صدور «البيان الختامي». وجاء التوافق الأميركي - الأوروبي على خط وسط لينقذ القمة من الفشل ويفتح الباب جزئيا للتدخل الشفاف في آليات السوق حتى لا تستمر الأزمة تتوالد ذاتيا من دون رقابة وإشراف وتنظيم.
فرصة للدول العربية
التوافق على الحد الأدني أعطى فرصة للإنقاذ بشرط أن تعتمد الدول المعنية والمشاركة (20 دولة) خطة تقوم على قواعد خمس: تعزيز الرقابة على عمل السوق والمصارف العالمية الكبرى، تنسيق الردود على الأزمات الاقتصادية الدولية من دون تبني خطط إنقاذ متوازية وترك هذه الخيارات للجهات المحلية، تحديث النظام العالمي وضمان الشفافية، إصلاح المؤسسات المالية، ورفض الإجراءات الحمائية.
هذه القواعد العامة ليست نهائية وانما آليات مؤقتة ستتعرض للفحص والمراقبة والاختبار حتى يقترب موعد القمة الاقتصادية العالمية «الثانية» في ربيع 2009.
قمة الربيع المقبل ستكون حاسمة أكثر في خياراتها لأنها ستناقش مدى نجاح خطة العمل والإضافات أو التطويرات الواجب إدخالها لتعديل آلياتها. فالموعد المقبل مهم لأنه سيتعرف على مدى استعداد الدول المعنية والمشاركة في التكيف والتأقلم مع القوانين الجديدة وخصوصا أنه يأتي بعد إنهاء عملية التسلم والتسليم بين الرئيس الحالي والرئيس المنتخب باراك أوباما كذلك يتصادف بعد انتهاء قمة الكويت الاقتصادية التي يرجح أن تتوافق على خطة عمل عربية لحماية الثروات وتأمين فرص للتشغيل والتنمية المستدامة.
هناك فرصة تاريخية للدول العربية حتى تؤكد قدرتها على الصمود في مواجهة موجة الارتداد المالية العالمية وتحصين مواقعها الخاصة في إطار أزمة دولية عصفت بالأسواق وزعزعت الثقة باقتصاد البورصات. والفرصة التي أشار إليها «إعلان واشنطن» تؤكد على نقطتين: الأولى فترة سماح زمنية تمتد إلى 31 مارس المقبل. والثانية ترك المجال للقوى المحلية والإقليمية لاتخاذ الخيارات المناسبة التي تتأقلم مع المصالح ولا تتعارض مع المبادئ الخمسة العامة التي أقرتها «قمة دول العشرين».
«إعلان واشنطن» اعترف ضمنا بالخصوصيات واعتبر أن ظروف الدول ليست متشابهة في أنماطها الإنتاجية وآلياتها الاقتصادية ومستوى تطورها الاجتماعي وحاجاتها الذاتية للتنمية لذلك توافق على أعطاء هامش نسبي للتحرك ضمن مهلة زمنية اختبارية تنتهي في الربيع المقبل وموعد القمة الدولية الثانية.
هذه الفرصة يمكن أن تستغل نظريا وعمليا في المنتديات والدورات والقمم الاقتصادية التي ستبدأ أعمالها اليوم وغدا في المنامة وبعدها في القمة العربية المخصصة للاقتصاد التي ستعقد في الكويت. ومثل هذه الفرصة قد لا تتكرر وخصوصا أن المؤشرات أعطت الكثير من النقاط الإيجابية للدول العربية ومدحت نجاحها في التكيف والتأقلم مع الأزمة الدولية بسبب اعتمادها سلطة رقابية (حمائية) تحصن الودائع والعقارات من الانهيار والتبخر. وهذا النوع من المديح ليس امتيازا بقدر ما هو يعكس درجة من المسئولية جاءت ردا على ضربات مالية سابقة في الأسواق الدولية. واستفادة الدول العربية من دروس التجارب السابقة ساعد هذه المرة على تجنيبها الأزمة أو الحد من مخاطرها السلبية كم ذهب تقرير بيت الاستثمار العالمي (غلوبل) إلى القول حين ذكر أن اقتصاد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (دول مينا) هو الأسرع نموا في العالم.
هذه الإشارات الإيجابية تعتبر فرصة للبناء عليها وتطويرها في الفترة المقبلة ولكنها ليست كافية للاطمئنان وخصوصا أن العالم يرجح أن يدخل في مرحلة ركود ما يؤدي إلى نوع من الانكماش في النمو وتراجع الطلب على النفط والغاز.
مسألة النجاح وتجاوز الأزمة والمحافظة على درجة النمو وتطوير آليات السوق وإعادة هيكلة الاقتصاد وبرمجة الحاجات وتأمين فرص عمل والحد من البطالة تتطلب تنويع مصادر الثروة والقوة وهذا لا يمكن التأكد من حصوله من دون وضع خطط تستشرف مختلف الاحتمالات وتحديدا تراجع سعر برميل النفط إلى 30 دولارا.
الأزمة كبيرة وهي ساهمت حتى الآن في تعديل الكثير من الأفكار والتوجهات. فالتعديل بسيط وجزئي ولكنه دخل مرحلة الاختبار ونتائج الامتحان ستصدر في الربيع المقبل. وهذه المهلة الزمنية ربما تشكل مناسبة للدول العربية المعنية بالتنمية المستدامة أن تتوصل إلى سياسة ناجحة تنقذ الاقتصادات المحلية من التعثر وتمنع موجة الانهيارات من الارتداد إلى أسواق الخليج
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2264 - الأحد 16 نوفمبر 2008م الموافق 17 ذي القعدة 1429هـ