من اطلع على حملة «ركاز» في صورتها الجديدة، وبالتحديد في ما يتعلّق بلوحات الإعلانات الضخمة والشعار المرفوع «لذة الطاعة... جربها» وتلك الصورة الجميلة لشاب متبسم وهو منبطح على بساط عشبي أخضر وهو يحتضن بيده زهرة بيضاء ناصعة، لربما يجد أنّه وعبر تكامل الصورة والشعار مع أهداف الحملة فقد حققت هذه الحملة قدرا لا بأس به من التطوّر النوعي والاقتراب من المضمون العملي والروحي الكوني لشعارات حملات «ركاز» الهادفة بحسب القائمين عليها إلى «تعزيز الأخلاق»!
ومثل هذه الصورة المعبّرة بحيوية إنما لتنتصر في النهاية للمفهوم الكوني والطبيعي والجمالي الإنساني للطاعة الربانية ولهذه الأخلاق بدلا من سابقتها في حملة «ثابت على قيمي... ثابتة على قيمي» التي قدّمت الصورة والكلاسيكية المستعادة بشكل آخر من الأخلاقيات الحزبية للجماعات الحركية الإسلامية - السياسية، فصورة الرجل الملتحي المبتسم والطفلة المحجبة باعتقادي لم تكن تمثل إلاّ تجسيدا لطغيان المظاهر الشكلية والدعائية على المضامين الأخلاقية، فهي نماذج تصنم هذه الأخلاق وتلسعها وتحبسها خلف مظاهر قد تكون خادعة في أحيان كثيرة، وأذكر أني كتبت في مقالي السابق متسائلا:
«هل تقاس القيم والثوابت الأصيلة بالشكل والهيئة؟ وهل كل مَنْ كان على تلك الصورة والهيئة والشاكلة من اللباس ومن الذقن فهو لابدّ أنْ يكون بالضرورة ملتزما بقيمه وثوابته الشرعية الأصيلة؟ هل تقدم الصور دلالات صادقة دوما عن المضامين العملية والتواصلية لتلك القيم والثوابت؟»، وأضفت «ما يعرفه ويتعارف عليه من خبر الحياة وعاصرها أو عصرته هو أنّ المظهر والهيئة وإنْ كان مصطبغين بسناء ونور الشريعة قد لا يدللان على معدن الفرد ومدى تحليه بتلك الأخلاق والقيم والمبادئ والثوابت في تعامله اليومي مع الجميع أكان في نطاقات حياته العامّة أو الخاصة».
وبالنسبة إلى هذا النموذج الكوني والفطري من لذة الطاعة الربانية والمتحرر من قيود وأغلال المظاهر الشكلية والالتزامات الحزبية المسيّسة إنّما يجسّد أشد ما نحتاج إليه في الوقت الحاضر من إعادة دفق متجدد ومتجرد لتسامي روحي وذوبان مشرق في حب الألوهية الواحدة بعيدا عن أدنى خضوع لاستعباد سلعة أو خدمة أو صورة أومصلحة تجارية أو مصلحة سياسية مؤقتة، ونحن بحاجة إلى معين قيمنا الروحية الأصيلة لتطهير مجتمعنا من تلك الوثنيات الجديدة، وبالتالي فإنّ أية محاولة ومبادرة فردية كانت أو جماعية لإعادة الاعتبار لتلك الحلول الإنقاذية والبلسم الروحاني الشافي في زمن استبداد السلعة والصورة والمصلحة الآنية إنّما هي تستحق الدعم والاحتفاء والتقدير.
ولكن ما يضير في تلك المحاولات أنّ هنالك من المندسين والبارزين فيها على حد سواء ممن يمثلون صورا بشعة للأخلاق السياسية والأخلاق الوصولية ولاستعباد السلعة المادية والسياسية وحتى السلعة الفكرية مهما تكن قيمتها، وهو في اعتقادي أمر طبيعي في ما يتعلق بمفهوم «لذة الطاعة» وهو المفهوم العام الذي قد يأخذ تأويلات متعددة لدى الجماعات الحركية الإسلاموية المعاصرة كلا على هواه ومآربه!
ففي بعض جماعات «السلف» المتنفذة التي تتباهى بأنها أزالت وحاربت جميع البدع والهرطقات العبادية إلاّ أنها قضت على جهودها المزعومة تلك باستحداث بدعة الطاعة الوثنية لولي الأمر من دون نصح وتقويم وحساب في ما يكرس من هيمنة السياسي على الديني أو ربما يوازي بينهما إذ تكون طاعة ولي الأمر ولو كان سفيها طاعة لله الواحد الحكيم!
فلدى مثل تلك الجماعات التي ابتلت بها الأمّة الإسلامية قد يعني مفهوم «لذة الطاعة» هو لذة الطاعة لولي الأمر وهي دون شك لذة شهية جدا ولا مفرّ منها لكونها جالبة للمال والعقار والمناصب والأربع زوجات الصالحات والجميلات وكذلك للحظ السعيد فـ «المال والبنون زينة الحياة الدنيا»!
كما هي في بعض الفئات التي تنسب نفسها للأسف لتيار «الإخوان المسلمين» فإنّ «لذة الطاعة» قد تعني لذة الطاعة والانصياع للمرشد الحزبي وللشخصية النافذة في الجماعة والتيار والتي إذا ما أطعتها وخدمتها أحسن خدمة وحققت لها مآربها الدنيوية والأخروية السامية والدنيئة فإنني سأكسب حظوة كبيرة حينما تقربني هذه الشخصية المطاعة مهما كانت من سوء وفساد إلى عُلية القوم وكبار المسئولين الذين لن يبخلوا في حينها عليّ بقطعة أرض وبوظيفة مميّزة في مؤسسات الدولة تبهج حالي ولعلّي بقطعة صحافية أسطر فيها خواطري وشجوني «الروحانية»!
ولدى التيارات الشيعية السياسية الحركية في حالتنا البحرينية على وجه التحديد فـ «لذة الطاعة» قد تعني الانصياع والتقديس الأعمى لشخص الفقيه الكبير حتى ينول عليّ ويزكيني ويجعل منّي «مناضلا سياسيا» في ليلة وضحاها فأصل إلى مبتغاي وأكون من بعدها نائبا في البرلمان، ومن ثم وجيها كريما ومحسنا أتوسط ببؤس وتعاسة لدى عُلية المسئولين لتوظيف عدد من أبناء الجماعة في أية وظيفة مهما تكن مقابل تبادل مع أقراص «البندول» و»البروفين» و»الزنتك» السياسي العقيمة، أو ربما تعني «لذة الطاعة» هو حينما يجعل الفقيه والخطيب من نفسه عبدا وأسيرا لغوغائية الشارع وفوضوية الجماهير المحبطة واليائسة والمتعسة حالا، فيعمل على تأجيجها وتسخينها وحقنها بالشعارات الطائفية المسقطة سياسيا عسى أنْ يركب المعمم على طوفانها الحاشد بمثل البراعة التي قد يركب ويتزحلق بها شاب على موجة زرقاء عارمة في شواطئ «ماليبو» بالولايات المتحدة الأميركية!
أما بالنسبة للتيارات اليسارية والتقدمية والجماعات «العلمانية» فإنني أذكر حوارا قد دار بيني وبين عدد من الإخوة الأفاضل والأعزاء المنتمين لتلك التيارات الذين أبدوا استغرابهم من ابتعاد تياراتهم وجماعاتهم عن ميادين الدعوة لصون وحماية أخلاق وقيم المجتمع وبالتالي تركهم المجال مفتوحا أمام التيارات الإسلاموية السياسية بسنيها وشيعيها لتلوين هذا الميدان بمختلف ألوان المصلحة التجارية والسياسية والحزبية واستثمارها انتخابيا لتحقيق أجندة أخرى، فهل تشكل الفضيلة والعزة والكرامة الاجتماعية عائقا أمام العمل السياسي الوطني؟!
أعرف العديد من قصص وبطولات النجاح الحقيقية التي ساهمت وجاهدت فيها العديد من كوادر التيارات اليسارية والتقدمية التي كاد أنْ ينتهي بها المطاف في الحبس والسجن في سبيل محاربة الفساد الأخلاقي والقيمي سواء في ما يتعلّق مثلا بـ «الدعارة» في البلاد ومن بينها دور ملحق «الديمقراطي» الصادر عن تنظيم «وعد»، وهو ما مثل بطولة حقيقية عوضا عن بطولة استعراضية ودعائية موهومة يقدّمها النائب «الصارم البتار» أو «النائب زورو» المتنكّر والمتخفي الذي يعرف جيّدا وكلاء الفساد الأخلاقي الحقيقيين في المجتمع!
ومع ذلك تبقى المعضلة مع التيارات اليسارية والتقدمية هي في كونها ظلت في جزء ملحوظ منها أسيرة للطقوسية ذاتها التي تقمصت وانتابت التيارات الإسلاموية السياسية، ففي حين قدمت الأخيرة موضوعات السواك واللحية والحجاب والعمامة على قضايا عدالة المجتمع وعلى تقويم الحكم السياسي ومُحاسبته، ومُحاربة الفساد المالي والإداري، فإنّ التيارات اليسارية والتقدمية قدّمت الحرية الخاصة على الحرية العامّة وهو ما أقر به ذات مرة بصراحة وشجاعة المناضل الوطني عبدالرحمن النعيمي (شفاه الله) حول حال بعض الرفاق والأصحاب فقال: «السياسة وحدَها لا يمكن أنْ تكفي من دون إصلاح أخلاق وقيم المجتمع الأصيلة واحترامها وإكسابها معنى تقدميا جديدا»!
فهل يعود جميع الإخوة والفرقاء والرفاق إسلامويين كانوا أم يساريين وتقدميين في النهاية إلى «لذة الطاعة» الحقيقية ولذة التسامي الروحي ويقرنونها بواقعهم الدنيوي المعيش؟!
بالنسبة لي أرى أنّه لا ضير أبدا في ذلك إذ يستعيد بني آدم آدميته ويعيد انسجامه مع المنظومة الطبيعية والكونية الشاملة
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2264 - الأحد 16 نوفمبر 2008م الموافق 17 ذي القعدة 1429هـ