عروبة البحرين كانت على مر العصور ولاتزال العنوان والسمة الحضارية التي لا خلاف عليها، فهذه العروبة ظلت مترسخة ومتجذرة في هذه الأرض التي تفاوتت وتباينت حدودها تاريخيا، ولم تكن أبدا متعلقة ومرتبطة ببقاء حكم أو نظام وتنظيم سياسي معين، وقد ساهمت هذه الرابطة الحضارية الأصيلة التي امتازت بها البحرين في أن تلعب البحرين دورا بارزا ورائدا في محيطها الحضاري العربي المشترك، وإن كنا قد شهدنا في الأسبوع الماضي سجالا حادا وتفاعلا قياسيا على مستوى الصحافة ومنظمات المجتمع المدني والأوساط الدينية حتى ازدهر النشاط لدى خلايا «الغونغو» أيضا بسبب مقال غير مسئول لمستشار المرشد الأعلى الإيراني حسين شريعتمداري زعم من خلاله أن البحرين مقاطعة إيرانية سليبة!
وقد تأزمت الساحة الداخلية والإقليمية جراء تلك التصريحات التي أتت في وقت حرج استراتيجي تمر به المنطقة وعادت إلى الأذهان من جديد صورة الخطر الإيراني التوسعي والأطماع الإيرانية التاريخية في المنطقة وما تشكله من خطورة على العروبة الحضارية التاريخية للبحرين، وتم بالإضافة إلى أدوار التوعية البناءة لخطورة تلك التصريحات من قِبل مسئول إيراني رفيع المستوى، كما تم استغلال هذه التصريحات في عمليات ابتزاز سياسي متدنية وتوظيف استهلاكي جماهيري يعتمد التخويف والترهيب لتعطيل ملكات العقل والمنطق من قِبل من لا قضايا لديهم غير التربص بالمعارض والمخالف سياسيا، وذلك قبل أن يتم احتواء هذه الأزمة بحكمة وعقلانية رسمية من قِبل البلدين الشقيقين.
وإن كان مثل هذا الخطر القائم والمتصور تاريخيا - والذي ازداد تأزما أخيرا نتيجة للظروف الإقليمية المتردية - هو الأكثر حضورا في الساحة السياسية المحلية وصاحب النصيب الأكبر من التفاعل الجماهيري في البحرين تحديدا ودول الخليج عموما والمرجح أن يعود كعادته إلى حال الجزر والخفوت بعد التطمينات الإيرانية الرسمية أخيرا، فإن ما ينبغي التنبه إليه هو أن هنالك مخاطرَ محورية أخرى قائمة وأن أثرها التدميري مستشرٍ على قدم وساق في صميم المجتمع البحريني وبين صفوف الجماهير الغاضبة تحت نيران الرعب والاستشعار للتهديد القومي الخارجي التاريخي، فهذه الأخطار تمتاز بكونها تنبت أو تستعر بهدوء منسجم ومتجانس مع النسيج المجتمعي فيما يؤدي نهاية إلى تدمير تلك العروبة الحضارية التاريخية المميزة من الداخل إما عبر إفراغها جوهريا من محتوى التأثير المعنوي والتضامني الإنساني الأممي، وإما من خلال إدامتها في فلك سائر أشكال التبعية الاستراتيجية للقوى الامبريالية الدولية، وبالتالي ينزع عن صيغتها ومعادلتها عناصر السيادة والاستقلال لتظل ظاهرة جماهيرية صوتية وقوة سوقية لا أكثر وأقل، أو أن يكون هذا الخطر وافدا ومتغلغلا بسلاسة تحصر وتحسر نسبيا هذه العروبة الحضارية التاريخية بدءا من الأثر اللغوي والثقافي حتى الطابع والمعنى الوجودي!
وضمن جملة المخاطر القائمة والفعلية المحدقة بالعروبة الحضارية للبحرين يأتي في المقدمة الخطر الطائفي الذي يزداد تأزما بشكل مطرد وأسرع مما هو متوقع، ويجد روافده المغذية في الظروف الإقليمية المطروقة بضربات المحافظين والمجانين الجدد، كما أنه يجد له المحيط المناسب الذي يسهل ويسرع من عملية نشوئه وانتشاره وتمأسسه مرجعيا من خلال ممارسات السلطة والنخب المحلية وظروف مسعفة تتمثل في تطبيق استراتيجيات التشطير العمودي التي تجعل من الأساس الطائفي المميز أساسا ومعيارا للفرز الطبقي والسياسي المجتمعي في البلد، ومحددا واقعيا وذا جدوى اجتماعية وجماهيري فاعلة لكل التحركات المدنية والأهلية كما هو حاصل لدينا، وإن كان ذلك واقعا ضمن بقايا وفتات ايديولوجية فقدت مضمونها الاجتماعي المثالي لصالح مظهرها السياسي الامتثالي، ومتوغل في صفوف تجمعات قومية ويسارية ونيوليبرالية في ظاهرة فريدة من نوعها يتم من خلالها حصر الانتماء إلى تلك العروبة الحضارية ضمن نطاق طائفة معينة، أو بحسب أذواق الانصهار السياسية المتكئة مصلحيا ونفعيا!
ومثل هذا الخطر يتميز أثره ومفعوله التدميريان بقدرته على إفراغ معادلة العروبة الحضارية من كنهها وفاعليتها المعنوية والتضامنية الموحدة للجماهير العربية المتحدثة بلغتها الفصحى والمعتزة بمثل هذا الارتباط الحضاري، وهو ما يمثل شرخا واضحا وملموسا في مثل هذا البنيان الحضاري الجامع والموحد، وهو لذلك يؤدي إلى تكريس للتهميش وعدم الثقة المتبادلة، ويؤسس تضادات اجتماعية وسياسية مستعادة وحاضرة ومقبلة، هذا إن لم يسعَ بجرأة صادمة إلى محاولة الإتيان بالمفارز الطائفية الوظيفية لاستعمالها مع المناهل التاريخية ليتم القضاء على ما تبقى من ذاكرة وطنية لتؤسس بأشلائها ذاكرات طائفية أخرى تؤبد وترسخ لهذا الانقسام، ولا يبقى لها من أي أثر معنوي وتضامني توحيدي في سياق المجتمع المقسم طائفيا إلا إذا ما اختزل البعض هذه العروبة الحضارية في تقديم القهوة العربية وتأدية «شيلات العرضة» أو إلقاء القصائد الفصحى والنبطية! وهنا يأتي واجب الدولة في أن تساهم في التصدي لهذا الخطر حتى توفي العروبة الحضارية لهذا الوطن حقها من الأمان والاستقرار والتراص الوطني المعزز لها، ولا يكون ذلك إلا بردع العاملين على إثارة تلك النزعات الطائفية الإقصائية ومعاقبتهم وحرمانهم ولو قليلا من فتات بذخها ووارف ظلها ورعايتها واحتضانها، فمثلما للدولة سطوة وهيمنة على أكثر من 90 في المئة من مفاتيح الحلول الطائفية، فإننا لا ننكر أن لها نسبة مماثلة من السطوة والتأثير على مفاتيح التأزيم والشحن الطائفي الكهربي الناتج من أزمات عالقة وأعطال بنيوية وتكتيكات سياسية مرحلية خاطئة وخطيرة، فالكرة في ملعب الدولة لتعيد إلى العروبة الحضارية البحرينية وجهها الناصع والمشرق مجددا.
لو تحدثنا عن خطر داهم آخر يهدد حاضر العروبة الحضارية للبحرين ولدول المنطقة ومستقبلها فسيكون بلا شك هو القواعد العسكرية الأميركية التي لا تختلف عن كونها قواعدَ لاحتلال أجنبي يهدد سيادة البحرين ودول المنطقة واستقلالها، وإن اعتبرها البعض قواعدَ لقوات صديقة لكونها تسعف بعض الصيادين والعالقين في عرض الخليج العربي! فهذه القواعد وما يرتبط بها من معاهدات واتفاقات تجرد هذه العروبة الحضارية من آثار السيادة والاستقلالية الاستراتيجية المتنوعة في المنطقة، وتعوقها من أن تؤسس مجالا حيويا للتحالف والنهوض والتكتل بين دول المنطقة العربية حتى دول الجوار الأخرى طالما ظلت جميعها أسيرة هذه الوصاية أو «الحماية» الاستراتيجية والعسكرية ومعها وصاية سياسية واقتصادية! فلأجل هذا السبب يظل التسليم المبدئي والقناعي بهذا الخطر مهما عظم حجمه بالمقارنة بحجم الدولة وطاقتها أمرا واردا على الدوام ومجزوما بأثره السلبي المدمر لإمكانات توظيف واستغلال تلك الخاصية الحضارية في تحقيق أية ميزات تحالفية وتشييد تكتلات نهضوية ممكنة مستقبلا طالما ظلت المنطقة بكاملها سريرا لهذه القوى الامبريالية العظمى والبحرين جزءا صغيرا من هذا السرير، وعروبتها الحضارية أضحت لغير ذاتها ومصلحتها!
بالنسبة إلى الخطر الثالث، فلربما يكون هو خطر التنامي المفرط والمتزايد لأعداد الجاليات الآسيوية الوافدة وعلى رأسها الجالية الهندية التي يقدر حجمها بأكثر من 250 ألف نسمة وهو ما يؤهلها في حد ذاته لأن تكون طائفة وإثنية أو مجتمعا «Community» بارزا ومهيمنا، فهذا الخطر هو الأكثر فيزيائية وطبيعية وواقعية ضمن سائر الأخطار المحدقة بالعروبة الحضارية للبحرين، وهذا الخطر يمتاز بنموه وبتغلغله المستمر في المجتمع البحريني وبتمفصله، إذ يصبح مثل هذا الخطر أمرا لا غنى عنه على صعيد المعيشة والحاجة والتكيف الحياتي اليوم، وبات يشكل ملفا مسكوتا عنه لأسباب عدة من بينها أنه ينمو بشكل سرطاني هادئ من دون ألم وعدوانية وعنفية تذكر وتزيد من خطورته، ويؤتي نتائجه مباشرة على صعيد مواقع اللغة والثقافة والعادات المجتمعية المميزة بحرينيا ليغرق بمده النسيج الاجتماعي والبنيان الحضاري العربي المميز لهذا البلد ويقضي على ما تبقى من أصالة مميزة!
كما سيكون له تأثير ملحوظ على شمولية وفاعلية الخدمات الحيوية التي تقدمها الدولة إلى مواطنيها وعلى ما تؤديه من واجبات في حقهم، وما ينعمون به من فرص وامتيازات متواضعة جدا بالمقارنة بما يحصل عليه أبناء الدول الريعية الخليجية المجاورة! وهنا أذكر ما كان المفكر السياسي الكويتي عبدالله النفيسي يحرص عليه بشدة من قرع أجراس هذا الخطر الماحق على الخليج تحديدا، ويستحضر في ذلك التجربة السنغافورية!
فما بالك يا عزيزي القارئ وقد التفتت الدولة إلى أهمية هذا المجتمع البحريني الوافد والجديد، فألحقته بمسئولية وطنية عالية ببركات لوثة التجنيس حتى يكون هذا الانتحار الحضاري والثقافي واللُغوي بشرعية ورسم وطني معترف به دوليا، وتنال الهوية البحرينية أعراض الابتذال والاضمحلال! وإن كنت هنا لا أحرض فاشيا ضد أبناء هذه الجاليات الذين وجدوا الفضاء أمامهم مفتوحا ومتسعا رغيدا لهم ولأبنائهم للهجرة من واقع الفقر المدقع إلى أرض الله الواسعة التي ضاقت بأبنائها، فأبناء هؤلاء الجاليات هم إخوة في الإنسانية ومنهم إخوة في الدين، ولكننا نحث الدولة والمجتمع على النهوض سوية في سبيل إيقاف هذا الخطر أو الحد من آثاره السلبية وإنقاذ ما تبقى من عروبة حضارية وهوية ثقافية لهذا البلد! فهل ستنجح الدولة وينجح المجتمع في التصدي لهذه المخاطر الثلاثة بعد أن يتصالحا مع بعضهما على حل أزماتهما بدلا من توظيف فاشل حتما لتلك الأزمات والمخاطر لتصفية الحسابات الطرفية كالذي برعت فيه الدولة؟
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1777 - الأربعاء 18 يوليو 2007م الموافق 03 رجب 1428هـ