استثمروا أيّها التجّار وأسسوا وساهموا، اجمعوا محبوب الناس في حساباتكم المصرفية «وتحبّون المال حبا جمّا»، عيشوا ليلكم ونهاركم في طلب الرزق الحلال والغنى، لا بأس عليكم، فذلك سعيكم وجهدكم وتعبكم، وأنتم أولى باستثماره والاستمتاع به.
تذكّروا فقط أنكم تعيشون معنا وتربحون منا، وتنمو تجارتكم بتجاوبنا، لذلك كونوا معنا كأهل وأبناء جلدة ودين، ولا يفصلكم الثراء عنّا وعن أوضاعنا وعن التغيرات التي تطرأ على ساحتنا، ولا عن التحديات التي تواجهنا، فالمنطقة في مفصل زمني حسّاس، تتجاذبها ثقافتان الأولى ثقافة الفرقة والكراهية والعنف، والثانية ثقافة التقارب والانفتاح والحب، وقد حصلت الثقافة الأولى على حصتها الضخمة من الدعم، وبقيت ثقافة الاعتدال والتقارب تنتظر أياديكم البيضاء.
الفكر المعتدل هو كتاب وخطاب ورؤى ومشروعات ومؤسسات تتحرّك على أرض الواقع، ومساحة المجتمع، وهي تنافس غيرها في جذب الناس واكتسابهم وتنويرهم وتسليحهم بإيجابية يستطيعون معها أن يحققوا أمنا وأمانا يطوّر البلاد، ويدفعها بخطى متسارعة ومدروسة ؛لتكون دائما في وضع أفضل وأحسن مما هي عليه، مع حمدنا لله لما نحن فيه من خير.
لقد أخذ التهور اللا منضبط بعض الأثرياء والمقتدرين فراحوا يغدقون العطاء ويكثرون البذل على الأنشطة المتطرفة التي تشيع الكراهية والعنف بين شرائح المجتمع، ومكوناته، فأحرقت تلك الأموال مجتمعاتها وأفقدتها أمانها الذي كانت تتفاخر به، وأدخلتها في دوامة العنف والتقاتل مما شوّه سمعة الدين، وآثار الزوابع ضد المسلمين في كل مناطق العالم. ربما لم يستطع الفكر المعتدل أن يثير قدرا كافيا من الحماس في نفوس التجّار والمقتدرين ؛ليبادروا إلى دعمه وتبنيه، لأسباب يعود بعضها لطبيعة القائمين على الفكر المعتدل، وما ينتجونه من أفكار ورؤى يغلب عليها جانب العقلنة، ويختفي ربما تماما جانب الحماس، وبعضها الآخر يرجع لأسباب خارجة عن أيدي رواد الفكر المعتدل لكنها غير خافية عمن يتأمل ويتفكّر.
ما سبق من القول لا يعفي التجّار عن مسئوليتهم في دعم التوجهات العاقلة والمنفتحة في بلادهم، فالأفكار والرؤى والتغييرات الإيجابية لا تحدث من دون دعم ومساندة من أهل الخير، ومن أثرياء المجتمع وتجاره لقد لعب مال خديجة في صدر الإسلام الأوّل وفي بداية الدعوة الإسلامية التي حملها على عاتقه رسولنا الأكرم محمد (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه) فكانت أموالها وممتلكاتها وتجارتها داعمة لراية الإسلام، ومعينة لأبنائه البررة، وزاوية مهمة من زوايا تأمين الاحتياجات والإمكانات كي يؤدي رسالته بقدرات ودعم أكبر.
وهذا يحمل التجّار مسئولية البحث والتعرف على التوجهات الإيجابية النشطة في بلادهم، ومن ثم مدّها بالدعم والمساندة والتواصل معها.
إن مراجعة عابرة وسريعة لتاريخ انتشار الإسلام ووصوله إلى جنوب شرق آسيا، وإلى روسيا والى إفريقيا وإلى بقية بقاع العالم، تكشف لنا أن تجّار المسلمين لم يكونوا داعمين فقط لنشر تعاليم الدين بل كانوا هم الدعاة وهم المبلغون وهم الرواد الذين كانوا يوفرون إلى جانب غذاء الجسد والمعدة غذاء للروح وللعقل، فكانت رؤاهم وأفكارهم مباركة حيث حلّوا وارتحلوا.
كانت أرواح هؤلاء التجّار حية طرية، ولم يكن كسب المال فقط هو مبتغاهم، بل من خلال سيرتهم وتجارتهم يمكننا حسم الجدل السائد في التاريخ حول الناشر للإسلام في الكثير من بقاع العالم،ضمن السؤال المكرور هل انتشر الإسلام في أغلب مناطق العالم بعمل تجاري وبواسطة التجّار ؟أو انتشر بواسطة أعمال تبشيرية يتبناها الدعاة والمبلغون؟
لنقول في الجواب على ذلك: إنهم التجّار الذين تسلّحوا بالعلم والمعرفة والشعور بالواجب أمام الله وأمام الشعوب والمجتمعات التي وصلوها، فكانت لهم تجارتهم مع الله، كما أخلصوا في تجارتهم مع الناس.
يمكن للتجارة -أيّها التجّار- أن تؤكد المصالح المشتركة لأبناء المجتمع الواحد، وأن تؤسس للتداخل الذي ربما عزّ على أطر أخرى أن ترعاه وتتبناه وتؤكده في نفوس الناس، وهذا بحد ذاته إنجاز يسجل مقابل تيارات التطرف التي تنخر أمتنا وتصيبها بمقتل جراء نشر ثقافة الكراهية والتحريض والإشاعات المرجفة وقوائم المقاطعة السوداء، وكتابات الإنترنت البعيدة عن الدين والضمير.
إن التجربة السنغافورية مثال حي وشاهد حاضر على انتقال هذه الدولة من العالم الثالث إلى العالم الأول؛ لأنها ركّزت على الأداء والكفاءة المتميزة فأوجدت تنافسا إيجابيا قضى على العصبيات الداخلية، وفرض جسورا من التعاون أسهمت في تغيير ظروف الحياة في سنغافورة والقفز بتلك الدولة الصغيرة ذات القوميات المتعددة إلى حيث الواجهة وإلى مصاف الدول المتقدمة.
ويؤمل من التجّار في هذه الظروف العصيبة إلى تمر بها منطقتنا أن يكونوا يدا وعونا وسندا، إذ تكون تجارتهم ومؤسساتهم جسورا تساعد في ربط المنقطع من العلاقات بين أبنائه، وتعزيز التعاون بين أهله، وإن كان ذلك على أساس المصالح المشتركة بينهم وعلى رأسها سعتهم في الرزق ونمو بلادهم ومناطقهم ؛ليتمكنوا من مواكبة ولو اليسير من تطورات العالم من حولهم.
لقد أتقنت غرفة التجارة العربية - البريطانية في لندن تسميتها، حين عززت شعارها بثلاث كلمات أوضحت معنى المصالح المشتركة، وهي (التجارة طريق الصداقة) أن المصالح المشتركة بين الناس يمكن أن تجسّر العلاقة بين الشركاء وتؤكّدها وتحولها إلى صداقة.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1774 - الأحد 15 يوليو 2007م الموافق 29 جمادى الآخرة 1428هـ