كشفت مذكرات مدير الاستخبارات الأميركية (سي. آي. أيه) السابق جورج تينيت التي صدرت في كتاب «في قلب العاصفة»، معلوماتٍ خطيرة وتفصيلاتٍ كثيرة عن السياسات التي اتبعتها إدارة جورج بوش الحالية منذ أخذت زمام مقاليد السلطة. فالمذكرات أكدت تحليلات وأثبتتها بالوقائع واليوميات؛ ما يقلل من حظوظ التيار التغريبي في المنطقة العربية واستمراره البائس في الترويج للمشروع الأميركي. كذلك ترفع المذكرات الغطاء عن قراءات واقعية تعاملت مع السياسة الأميركية بحذر وشككت في ادعاءات واشنطن أنها تريد ازدهار المنطقة وإصلاحها وتحديثها وتنميتها وغيرها من كلام مغشوش. وأهم ما في المذكرات أنها تؤكد في جوانبَ مختلفة نظرية «المؤامرة» التي تقوم على فرضية افتعال أزمة واختلاق مشكلات لتبرير التدخل الخارجي بذريعة محاولة المساعدة على حلها.
المذكرات مهمة لا من حيث إنها تفصّل الوقائع وتوضّح مجرى الوقائع فقط بل هي كذلك لأن الطرف الذي كتبها تحمّل مسئولية إدارة أهم جهاز مخابرات في العالم وهو على صلة يومية بمركز القرار ومواقع القوى التي ترسم الخطوط العامة للسياسة الأميركية الخارجية. فالمذكرات شهادة رسمية من أهل الدار وهي لا تستند إلى فرضيات وتحليلات منهجية بقدر ما هي تعتمد على معلومات موثقة وتقارير ومحاضر جلسات وخلاصة مناقشات وسجالات تمت في إدارة بوش وتوابعها خلال فترة التحضير لغزو العراق.
فكرة الغزو بدأت بعد أكثر من أسبوعين بقليل على تسلم الإدارة الجديدة مسئولياتها، وهي فكرة روّجت لها مجموعة من قادة تيار «المحافظين الجدد» أبرزهم بول وولفوفيتز ودوغلاس فايث وريتشارد بيرل. فهؤلاء إضافة إلى غيرهم وقّعوا رسالة تتحدث عن «القرن الأميركي الجديد» وتدعو صراحة إلى الإطاحة بالنظام العراقي وتعديل خرائط وتبديل مواقع تمهيدا لنشر النموذج عالميا.
الفكرة موجودة، ولكنها كانت تنتظر مناسبة حتى تتحول إلى مشروع قابل للتنفيذ ومقبول من الشارع والمؤسسات. وحين وقعت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 سارعت تلك المجموعة إلى وضع الملف العراقي على الطاولة وأخذت تعمل على إقناع الإدارة بضرورة التحرك باتجاه تطبيقه ميدانيا تحت مسميات مختلقة ولا تحتاج إلى إثباتات وأدلة دامغة من نوع اتهام النظام بعلاقته مع «القاعدة» أو أنه يموّل الإرهاب أو أنه يقف وراء هجمات سبتمبر أو أنه يعمل سرا على بناء ترسانة من أسلحة الدمار الشامل.
هكذا تحوّلت الفكرة إلى قناعة وبدأ التخطيط للهجوم من دون اكتراث للاعتراضات أو السلبيات أو التداعيات. ويعطي تينيت في مذكراته صورة بانورامية عن شبكة الاتصالات والتخطيط المبرمج لكل التصريحات واللقاءات والمقابلات بقصد تحويل الانتباه وإثبات اتهامات غير مؤكدة في عقل الناس وذهنية الجمهور. كذلك يفصل تينيت بعض الشيء تلك الخلافات المسكوت عنها داخل الإدارة والتفاوت الحاصل في وجهات النظر وتحديدا بين نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الخارجية آنذاك كولن باول. كذلك يقدم معلومات عن تلك الآراء المتعارضة بين تيار متطرف يريد تنفيذ برنامجه التقويضي مهما كلف الأمر، واتجاه متخوف من النتائج الوخيمة للحرب والاحتمالات السلبية التي يمكن أن تترتب عليها.
فضح المشروع
هذه النقطة مهمة في مذكرات تينيت لأنها تفضح ادعاء الإدارة أنها لم تتوقع أن يتدهور وضع العراق ودول الجوار والمنطقة في حال احتلت البلد وقوّضت النظام. المذكرات تشير إلى العكس. فالإدارة كانت على علم بالمخاطر ومطلعة على النتائج وعلى بيّنةٍ من الاحتمالات السلبية المتوقعة. ويستند تينيت في مذكراته إلى ذاك الاجتماع الذي عقد يوم الجمعة في 6 سبتمبر 2002 أي بعد سنة من هجمات سبتمبر وبعد أسبوع من خطاب حربي ألقاه نائب الرئيس أمام حشد من «المحاربين القدامى». فالاجتماع عقد في كامب ديفيد بحضور فريق الأمن القومي الذي يضم مختلف الأجهزة وكان يستهدف احتواء اختلاف الآراء التي ظهرت على سطح الإدارة وخصوصا بعد أن نشر مستشار الأمن القومي لدى الرئيسين السابقين جيرالد فورد وبوش الأب، برنت سكو كروفت في صحيفة «وول ستريت جورنال» بتاريخ 15 أغسطس/ آب 2002 نصح فيها بعدم مهاجمة العراق. والهدف الثاني للاجتماع كانت دراسة خطة الحرب و «إزاحة صدام» و «تحرير الشعب» و «إزالة أسلحة الدمار الشامل» و «وضع حد لتهديدات العراق لجيرانه».
تينيت يكشف في مذكراته عن معلومة خطيرة جرت في ذاك الاجتماع وهي ورقة أصدرتها المخابرات الأميركية بتاريخ 13 أغسطس تحت عنوان «العاصفة الكاملة: التخطيط للعواقب السلبية لغزو العراق». فالورقة التي أرسلت إلى الإدارة قبل أكثر من ستة أشهر على الحرب حذرت من مخاطر المشروع وتوقعت حصول تداعيات سلبية لخصتها المذكرة في نقاط أربع: الفوضى وتفكك مناطق العراق، عدم استقرار يهدد النظام في دول عربية رئيسية، تزايد الإرهاب العالمي ضد المصالح الأميركية تذكّيه الكراهية الإسلامية العميقة للولايات المتحدة، وانقطاعات كبيرة في واردات النفط وتوترات حادة في تحالف الأطلسي.
كل التوقعات التي ذكرتها الـ «سي. آي. أيه» في ورقتها حصلت على أسوأ سيناريو. فالفوضى انتشرت وتفكك العراق إلى مناطق طائفية ومذهبية، وعدم الاستقرار أخذ يزعزع أمن دول المنطقة والجوار، والإرهاب امتدت خيوطه وشبكاته، وأسعار النفط ارتفعت ووقعت خلافات في «الحلف الأطلسي» آنذاك وانشطرت أوروبا إلى فريقين.
ردود الفعل إذا كانت معلومة ومدروسة وإدارة واشنطن كانت على دراية بها. وربما يكون هدفها بقيادة تيار «المحافظين الجدد» دفع المنطقة إلى حافة الانهيار والوصول بها إلى المحطة التي وصلت إليها الآن وبعد أكثر من أربع سنوات على الغزو.
تينيت يقول إن الإدارة لم تكترث للنتائج بقدر ما كانت تركز على نجاحها في الحرب. كذلك لم تنتبه إلى تلك التحذيرات، وهو أيضا لم يصر عليها نظرا إلى تلك الأجواء السائدة وسيطرة الأصوات المتطرفة على أية لغة عاقلة وموضوعية. الكلام نفسه قيل عن تلك الورقة التي وُضِعت على طاولة بوش قبل أسبوعين أو أكثر من وقوع هجمات سبتمبر تحذره من احتمال حصول ضربات مؤذية داخل الولايات المتحدة، ولكنه أهملها كما أهمل تحذيرات المخابرات بشأن التداعيات السلبية في حال شُنَّت الحرب واحتُلَّ العراق.
الإهمال تهمة بسيطة لتخفيف المسئولية والتقليل من المشاركة الجنائية. فما وقع في العراق كان ضمن خطة واضحة ومبرمجة. والإدارة كانت على علم ودراية بالموضوع. وإدارة الاحتلال سلكت كل الطرقات واستخدمت كل الوسائل لتقويض العراق وتحطيمه وتفكيكه. فما حصل لا يؤكد تلك الاحتمالات السلبية التي أشارت إليها الورقة فقط وإنما يرجح أن الإدارة أخذت بها واعتمدتها واتبعتها حرفيا باعتبار أن المشروع الأميركي لا ينص على إصلاح «الشرق الأوسط» وإنما تقويضه. وعمليات الفوضى والتقويض والتفكيك هي جزء من الخطة المبرمجة وليست ضدها.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1774 - الأحد 15 يوليو 2007م الموافق 29 جمادى الآخرة 1428هـ