بدأت أمس اللقاءات اللبنانية في ضاحية باريس (سان كلو) ويتوقع أن تختم اليوم بإشراف فرنسي. وبين الافتتاح والاختتام مسافة يومين يرجح ألا تكون كافية لتفكيك أزمات محلية وإقليمية يعاني منها البلد الصغير منذ عقود. وهي أزمات أعيد إنتاجها بعد التمديد للرئيس الحالي أميل لحود تحت سقف قرار دولي حمل الرقم 1559.
الحل مستبعد في القريب المنظور. والمحاولة الفرنسية ليست سوى خطوة تأسيسيه لمنهج سياسي تريد باريس إظهار تضاريسه من خلال الانفتاح على مختلف أطراف الأزمة. والانفتاح على مختلف أطراف الأزمة لا يعني اطلاقا أن الأزمة باتت في طريقها إلى الحل. فالأزمة أوسع وأكبر من الانفتاح أو الانغلاق وهي تتجاوز تلك التحليلات الساذجة التي وضعت المشكلات اللبنانية في دائرة شخصية.
إلا أن اللقاء اللبناني في ضاحية باريس ليس طلقة عشوائية في الهواء فهو أراد توجيه إشارات سريعة تظهر استعداد فرنسا في عهد الرئيس نيكولاي ساركوزي لممارسة دور خاص في سياق التعامل مع الأطراف المحلية والإقليمية من دون أن يكون لهذا الدور المفترض موقعه الاستثنائي في لعبة الصراع. فالحرص على التمايز عن فترة الرئيس السابق جاك شيراك لا يكفي لنقل فرنسا من موقع الطرف الإيجابي إلى موقع الوسيط بين الفرقاء. وفرنسا في هذا المعنى لا تستطيع أن تذهب في المناورة إلى الشوط الأخير إذا لم تكن في وضع يسمح لها بالاستقلال عن المشروع الأميركي في المنطقة. وهذا ما فشلت به فرنسا حتى في عهد شيراك فكيف سيكون أمرها في عهد رئيس أكثر تفهما للبرنامج الأميركي وأقرب إلى المزاج الإسرائيلي وإفراط تل أبيب في تغليب تصوراتها الأمنية على مختلف القوى الإقليمية.
لكل هذه الاعتبارات الموضوعية اضطرت حكومة فرنسا إلى إحاطة واشنطن علما بخطوتها. كذلك وجهت رسائل مريحة إلى دمشق وأرسلت مبعوثها الدبلوماسي إلى طهران لشرح وجهة نظرها... وأخيرا وهذا هو الأهم أبلغت كل الفرقاء المشاركين في لقاء ضاحية باريس أنها لا تطمح إلى عقد تسوية في «سان كلو» بقدر ما تنوي جمع الأطراف للحوار على بيان يتضمن رؤوس أقلام ربما تساعد على إضاءة زوايا غامضة من الأزمة.
لا طموحات ولا توقعات ولا احتمالات تنتظر اللبنانيين من لقاءات الضاحية الباريسية. فالكل ذهب إلى هناك تلبية لرغبات دولة تمر في مرحلة انتقالية ولا تريد خسارة موقعها في ظل تعقيدات أزمة لبنانية ممتدة جغرافيا وإقليميا وسياسيا ومتداخلة محليا وملوّنة طائفيا ومذهبيا.
اللبنانيون لا ينتظرون بدورهم المستحيل، فهم باتوا على قناعة أن مفتاح الحل ليس في البلد الصغير. وأن أزمات بلاد الأرز تم تدويلها منذ العام 2004 وباتت تخضع لتوازنات إقليمية تضغط على الطوائف والمذاهب والمناطق وأيضا المخيّمات الفلسطينية لزعزعة الاستقرار ونشر الفوضى .
لقاءات باريس إذا هي مجرد محاولة لجس نبض مدى استعداد الأطراف اللبنانية لتقديم تنازلات «سيادية» في سياق تسوية عامة تعطي « الأقاليم» حصتها في تقرير مصير بلد تحوّل منذ العدوان الأميركي - الإسرائيلي في الصيف الماضي إلى ساحة مفتوحة ومكشوفة. فهل القوى اللبنانية باتت منهكة وفي وضع متهالك يملي عليها القبول بتسوية قاسية تطيح بالكثير من الخطوات التي قطعتها في السنوات الثلاث الماضية؟ المؤشرات توضح أن هناك استعدادات للتفاوض على نقاط تعتبر مصدر قلق لكل اللبنانيين. والكلام الذي نشرته صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية قبل شهر لرئيس مجلس الأمن القومي علي لاريجاني تحت صيغة عنوان «مبادرة إيرانية بشأن لبنان» يتضمن الكثير من الخطوط العامّة التي لابدّ أن تكون مدار بحث إقليمي لإيجاد قنوات لتصريف الأزمات اللبنانية ومنعها من الاحتقان والانفجار.
المبادرة الإيرانية
تحدّثت الصحيفة الفرنسية عن مشروع «مبادرة إيرانية» تضمن أربع نقاط مركزية. الأولى تناولت موضوع المحكمة الدولية واقترحت بدلا عنها صيغة مخففة أطلقت عليها «محكمة لبنانية». والثانية تناولت موضوع حكومة وحدة وطنية تتمثل فيها كل الأطراف. والثالثة اشتملت مسألة التوافق اللبناني على رئيس جديد للجمهورية. وتناولت النقطة الرابعة وهي الأهم إقليميا ؛لانها تضمن أمن «إسرائيل»، فهي تتصل بما أسمته الصحيفة الفرنسية محاولة إيران إقناع حزب الله بنزع سلاحه.
التسوية الإيرانية المقترحة وفق الصيغة التي استعرضتها الصحيفة الفرنسية تقوم على معادلة رياضية تعتمد زوايا أربع للازمة ولكنها تقترح زاوية مقابل ثلاث زوايا كإطار للحل. وهذا يعني أن قوى «14 آذار» عليها أن تتراجع عن المحكمة الدولية (القرار 1757)، وتوافق على حكومة ائتلافية (الثلث الضامن أو المعطل)، وتقبل بالمرشح الماروني القوي (الجنرال ميشال عون) مقابل أن تبحث قوى «8 آذار» بمسألة تنازل حزب الله عن سلاحه للدولة أو غيرها.
هذا الحل التسووي الإيراني يرضي نظريا كل القوى الدولية والإقليمية في حال توافقت عليه الأطراف اللبنانية مجتمعة. الولايات المتحدة لا تعترض عليه ؛لأنه يضمن أمن «إسرائيل» ولا يكسر التوازنات المحلية لمصلحة قوة إقليمية وحيدة كما كان أمر لبنان في العام 1976. وفرنسا مستعدة لقبوله رسميا بعد أن اختلفت أولوياتها ولم يعد ملف «المحكمة الدولية» يحتل رأس جدول أعمال ساركوزي. وسورية لا تمانع ؛لانه يسحب المحكمة من قيد التداول الدولي ويضعها تحت سقف لبناني تتجاذبه استقطابات أهلية وسياسية طائفية ومذهبية محكومة بتوجهات ائتلاف وزاري قلق ورئيس جمهورية توافقي.
أما «إسرائيل» فإنها لن تكون خارج السرب. فهي غير معنية بأمر المحكمة الدولية وغير مكترثة بتوازنات طائفية ومذهبية في الحكومة ولا تأبه لرئيس دولة غير قادرة على النهوض من دون إسعافات وضمانات إقليمية. أكثر ما يهم تل أبيب موضوع سلاح حزب الله، فإذا توافرت تعهدات إقليمية تحت سقف الرقابة الدولية (القرار 1559 وأيضا القرار 1701) فإن حكومة ايهود اولمرت لن تمانع في بحث صيغة سياسية تضمن أمنها على الحدود مع لبنان.
هذه الاقتراحات الإيرانية التي وردت في حوار صحافي نشرته «لوفيغارو» مع لاريجاني بعد فوز ساركوزي مباشرة بانتخابات الرئاسة الفرنسية يفتح بعض الأبواب المغلقة على الأزمة اللبنانية. إلا أن مفتاح الحل يبقى في «البيت الأبيض» ومدى استعداد الولايات المتحدة الذهاب مع فرنسا في مشروع حل عام يضمن أمن «إسرائيل» مقابل ترتيب الحصص للقوى الإقليمية الموجودة أو المؤثرة على توازنات الساحة اللبنانية.
فرنسا من جهتها بحثت نقاط «المبادرة الإيرانية» في اتصالات مباشرة مع أميركا وطهران كذلك تطرقت إلى مساحات منها من خلال اللقاءات التي عقدها الرئيس ساركوزي ووزير خارجيته مباشرة مع كبار المسئولين العرب في باريس وأكثر من عاصمة إقليمية ودولية.
هناك مشروع حل ولكنه يحتاج إلى وقت لإنضاجه. وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال مراقبة تراجع نسبة التفاؤل التي راهنت عليها باريس حين أطلقت مبادرتها ودعت الأطراف اللبنانيين إلى عقد حوار في ضاحية باريس. ففي البداية دعت «الصف الأوّل» إلى اللقاء وتراجعت فورا إلى «الصف الثاني». حددت موعدا متسرّعا ثم اضطرت إلى تعديله من نهاية الشهر الماضي إلى منتصف الشهر الجاري. أطلقت مجموعة أفكار وعادت إلى سحبها تاركة طاولة الحوار مفتوحة. راهنت على احتمال تسوية جزئية أو مؤقتة ثم اكتفت بالدعوة إلى الحوار من دون ربط اللقاءات بنتيجة محددة.
حماس باريس تراجع تدريجيا. وكلّ هذه الإشارات المتضاربة توضح أن فرنسا غير قادرة على لعب دور مستقل حتى حين استدعت الجنرال عون وبحثت معه الرئاسة أو حين فتحت الباب أمام حزب الله للعودة إلى الحوار معها. فكلّ هذه الخطوات لم تكن كافية لوضع صيغة حل ولكنها كانت أكثر من واضحة للإشارة إلى بدء تأسيس خطوة في منهج سياسي تريد باريس إظهار تضاريسه من خلال الانفتاح على مختلف أطراف الأزمة. فالانفتاح لا يعني أن الأزمات الإقليمية في لبنان وضعت على سكة الحل وإنما يؤشر على أن أولويات فرنسا في عهد ساركوزي اختلفت عن السابق وباتت أكثر قربا من أميركا ومتفهمة لحاجات «إسرائيل» الأمنية أكثر من الماضي.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1773 - السبت 14 يوليو 2007م الموافق 28 جمادى الآخرة 1428هـ