الرائحة الكريهة التي تزكم الأنوف، وتخل باتزان الوعي كانت تعم جميع الأرجاء، رائحة العفن تلك المنبعثة من مياه المجاري التي طغى منسوبها على منسوب مياه البحر في «خليج توبلي»، هذا الخليج الذي يبدو وكأنما تكدست في قاعه الجثث البشرية والحيوانية والجثث السابحة وجثة القانون ذاتها هي الأكبر بينها، وقد ظلت طافحة في هذا الخليج الفاني من دون أن تقتات منها سوابح أو أشباهها سوى الطفيليات البكتيريا!
لقد احتوى واحتضن جميع فضلات وأوساخ البحرين بأكملها، ما أهله لأن يصبح أكبر مرحاض (أعزكم الله) في العالم كما شبهه أحد الزملاء الأعزاء ووصفه بأنه بيت خلاء مشرع على الدوام، لقد وصلت هذه الرائحة الخانقة السوداء ربما إلى منتهاها، فهي الآن تبسط سلطانها على سترة وأم الحصم والمنامة وحتى المحرق، وكذلك مدينة عيسى والرفاع ومدينة حمد وحتى الزلاق، لقد طوفت جميع أنحاء البلاد ووحدتها بعطرها المنتن ذاته، فلا عادت المناطق تختلف عن بعضها بعضا في تضاريسها ومعالمها وقاطنيها، وهو ما يعكس قوة الرائحة التوحيدية التي صهرت الجميع بعفنها ونتنها!
ماذا سيفعل الناس أمام خطر مواجهة هذه الرائحة، هل سيهاجرون ويرحلون ويتركون الوطن ورائحته؟!
طبعا الأثرياء والموسرون والكبار النافذون منهم سيلجأون غربا إلى باريس وجنيف ولندن وفيينا بعيدا عن صخب هذه الرائحة الموجع للحواس، وهي التي لم تترك بيت غني ولا فقير إلا وملأته بنتنها، فأعان الله بيوت وفلل المناضلين الفدائيين المطلة على خليج العفن هذا، وهم ينالون يوميا مشقة هذه الرائحة التي تصبغ كل شيء بنتنها، والتي فيما يبدو أنها انعدمت حاليا من ساكنيها وقاطنيها الذين رحلوا بعيدا عن المجاورة والإطلالة الحميمية على هذه البقعة الجحيمية، والتي بالأمس فقط كانت حاضنة غنية لمخزون كبير من الثروات البحرية، فإذا بها اليوم قد أصبحت حاوية للفضلات والأوساخ والمزابل، فلا روبيان ولا صافي ولا هامور ولا سبيطية، فقد أصبح الماء الفيروزي المشجر بالطحالب وأشجار القرم أشبه ما يكون بترسبات هلامية سوداء داكنة أو تارة قانية كلون الفناء الدامي، ونحن بالكاد بانتظار فتوى شرعية تحرم الاغتذاء من مفرزات خليج المزابل هذا، أو ربما فتوى أخرى تحبذ إطالة النظر في هذا الجحيم السابح لأخذ التذكرة والعبرة ليوم الآخرة، وبالكاد بصدد مواجهة كائن حي، أو وجود بشري بالقرب من هذا الخليج وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، فالبيوت والفيلات الجميلة الموصدة امتلأت بالنتن والحشرات والقوارض وروائح الأوبئة، وبات ملحا أن توضع خطة إنقاذ صحية عاجلة لتدارك الوضع، ولكن لحظة... مهلا، يبدو هنالك في الأفق الغائم البعيد فرد بشري بجوار الخليج، إنه قريب جدا منه! يكاد يكون الأقرب لهذا الخليج بعد مياه المجاري والفضلات! ما الذي عساه أن يفعله في هذه الأجواء المنداة بالنتانة والدفارة؟!
هل هو عامل سائب مثلا، أو مشرد ولاجئ بلا مأوى لم يجد له من تعاسة حال يرمي عليها كساء قدره إلا بجوار هذا الخليج الفاني؟! أم هو عجوز مخرف يحن إلى أيام الخليج الصافية الزرقاء، ويزور أطلاله التي تقطع الأفئدة، ويلعن الجشع الإسمنتي «التنموي»، ويتشبث بآخر قطرات وأهداب البحر الحزينة؟!
أحسبه شبحا ذاك الواقف هناك كوقع الفرشاة المائية من دون أن يتزحزح شبرا واحدا، (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، ولكنه شبح مسكين هجر رفاقه الأشباح لينوح عند هذه المزبلة البشرية الكبرى، أو عند جثة القانون والطبيعة!
ما أن اقتربت نحوه بالسيارة للتعرف على معالم البدن والكساء حتى تبين لي أنه كائن آدمي بمجسم ذكوري بارز، وهو يرتدي بذلة إفرنجية غربية كلاسيكية سيئة الهندمة بعض الشيء، الرأس الحاسر من الخلف يبدو أصلعا مع خصلات لولبية خفيفة يخنقها الشيب، (هو إذا رجل متقدم في السن! ربما تركه أولاده هنا وتخلوا عنه ورحلوا، إنهم أولاد حرام! لم يختاروا سوى هذا المكان لأبيهم، لو رموه في المزبلة أرحم)، كان العجوز يحمل في يده البيضاء حد الشحوب سلة قشية، وقد غصت بقطع الخبز (هل هو يمارس هواية «الحداق»؟!) إنه مجنون لن يحصد في قلب الفناء هذا سوى الزبل والنتانة ويرقات البلهارسيا!
أخذ الرجل العجوز ما بداخل السلة من خبز و»بقصم» ورماه بأكمله في الخليج، (إنه يطعم روح الخليج لتنهض وترمي عن كواهلها أدران المزابل والفضلات؟! بل ربما هو عالم مخبول يجري تجربة علمية ربما!)، لأسأل هذا الرجل الذي اختار خليج النتن هذا مرآة وامرأة وإن بدوت فضوليا نوعا ما، والفضول فضيلة حين مجابهة الخوارق، فناديته «هه أنت!» فلم يلتفت إلي فصرخت بأعلى صوتي من دون فائدة، (ربما هو أصم يتنعم بالهدوء السرمدي)، أو (أجنبي لا يتكلم العربية أساسا)، سأضغط على «هرن» السيارة لينتبه إلى خلفه، وإن كنت أخشى أن يرمي بنفسه في خليج العفن فزعا أو ربما انتحارا في أردأ البقاع ليزداد الطين بلة أو العفن عفنا آخر!
ضغطت على «الهرن» فالتفت إلي على الفور هذا الرجل العجوز ذو السمات الأجنبية، فلمحت وجهه الشاحب ذا السمات والتقاسيم الغربية الشائعة، وعينيه الغائرتين، ولحيته الكثة الطويلة الممتلئة شيبا وكأنما هو عالم الأحياء الإنجليزي المعروف تشارلز داروين! هل يجري هنا تجربة علمية من دون كمامات! هنا حيث خليج الفناء يبدو لا أصل ولا فصل له، ولا نشوء ولا ارتقاء ولا انتخاب ولا اصطفاء طبيعي سوى للفضلات والمخلفات ضحكت (ما أبعد المسافة الزمكانية! ربما هو شبح داروين جاء إلى الموقع والحقل الغلط وهو يقرض خبز نظرياته، وربما يرمي بعضا منه في الخليج ليطعم به أشباح السوابح وأشباهها!)، توجهت نوحه مرحبا فلم يرد علي (ربما كان أعمى ولا يراني!) نزلت إليه ومددت يدي ليده لأصافحه، فصافحني هو الآخر بيده الباردة جدا على رغم حرارة الجو ورطوبته الخانقة (من أنت؟! كيف حالك!) لم يرد علي، فحسمتها في نفسي (إنه بلا شك مخبول أو معتوه ومجنون جاء إلى هنا متنكرا في هيئة شارلز داروين جبلا شامخا لا تهزه الرائحة)، أمسكت به من يده وأخذته إلى داخل السيارة وهو ينقاد بسلاسة مع حركتي كالطفل المنصاع لمن هم أكبر منه سنا! (سأسلمه إلى مركز الشرطة أو ربما مستشفى الأعصاب) توجهت بالزائر الغريب نحو طرقات العاصمة بحثا عن أقرب مركز شرطة وسعيا نحو مستشفى الطب النفسي من دون أي واجب للضيافة، أو غيره فالرجل قد ملأت رائحته، أي رائحة خليج توبلي السيارة حد الاختناق فقمت بفتح النوافذ عسى أن أخلط الرائحة في الخارج برائحة الداخل ليضيع المفعول، ولكن دونما فائدة!
عند أحد الدوارات الصغيرة بالعاصمة لاحظت شيئا قريبا وهو سياج ملون كبير أخذ يطوق جميع المناطق التي طفت بها وأصبحت بعدها خلف مسار سيارتي، فتوقفت قليلا من دون أن يتوقف السياج ذاته، واتجهت هلعا بعدها إلى عدد من المعالم المألوفة لأسلك طريقا نافذا، فإذا بها قد تغيرت بشكل مطلق، وتحولت إلى ما يشبه المجمعات أو ربما المجتمعات المغلقة والمسيجة الخاصة، (هل هي قسائم سكنية؟! أم مستودعات ومخازن؟! أم ماذا؟!)، ليس من متنفس عام سوى الشارع الذي أسلكه بسيارتي ومعي هذا الضيف الصامت الذي لا يكاد يخرج نفسا واحدا يرطب به فم الرائحة الداكنة (وكأنما أخذت معي خليج توبلي برمته داخل السيارة)!
ألا من نهاية وسدرة منتهى لهذه الأسيجة السريعة في إنشائها أو ربما تكاثرها وكأنما هي تستزرع وتغرس كالشتلات؟! هذه الجدران تغزو كالوباء أجساد الزمان والمكان، فما عادت العاصمة عاصمة، وما عادت البحرين بحرين؟! وما عاد الآن هنالك من متنفس بحري وبري وزراعي سوى الجدران والأسيجة ومن خلفها ضحك مبهم، ونباح كلاب!
خطر في بالي أن أرجع حتما إلى خليج توبلي المنكوب وأعيد إليه صاحبي «داروين» وقد يكون حارسه أو صاحبه، ولكني ضللت ولا أعرف الطريق الذي اختلف وتغير جذريا ما أن مررت عليه وكأنما احمل معي لعنات الجدران والمدنية والإقطاع والاستيطان والغزو و»الدفان» جميعا، حتما سأدخل متاهة ولن أخرج منها بلا هدف أو وجهة!
فجأة أمطرت السماء بغزارة ورقا صحافيا ملونا وفاخرا حتى امتلأ الأفق بهذا الورق الهاطل ملاحق ملاحق، فأخذت إحدى الصحف المرمية من الأعلى والتي أغرقت الطريق حد الثمالة، وقرأت بالحرف الواحد «مشروع توبلي... تنمية وإعمار... لؤلؤة توبلي... جنة توبلي» ومعه قصائد إشادة وتفخيم من شعراء وتصريحات نواب ونشطاء سياسيين وزعماء جمعيات «غونغو»، وشاهدت صورا لمجموعة من الفيلات الفخمة والحدائق والبحيرات المسيجة (من سيقطنها؟! ومتى تم إنشاؤها أصلا؟!)، في ظرف يوم أو أقل منذ أن أخذت معي حارس الخليج هذا أو «تشارلز داروين»!
فالتفت صوبي «داروين» باسما وقال لي بالحرف الواحد، وبلهجة ولكنة بحرينية أصيلة «ما بك يا صاح! إنها تطبيقات نظريتي الناجحة نظرية النشوء العمراني والارتقاء الإقطاعي! ألا تفهم؟! إنهم ببساطة يتركون الخليج يتسخ ويفطس ويتعفن ويصبح مستنقعا بعد أن تدفن وتسد منافذه البحرية، حتى تستدعي الحاجة إلى أن يتم طمره ودفنه بعدها بعد أن يفطس منه الجميع، ليتم إنشاء المشروعات العقارية الناجحة فوق مقبرته وبيعها كقسائم مربحة، هذا هو صفوة الانتخاب الإقطاعي!».
«تبا لك، هيا فلنخرج من هنا أنا أطلب منك أن تخرجنا من متاهة الأسيجة والجدران والمشروعات العقارية المسرطنة، والأوحال الصحافية هذه نحو مكاتب المشروع وأصحابه لأشتري وأحجز لي هناك فيلا بعد أن أبيع براءات نظرياتي واكتشافاتي التاريخية المتعددة، فأقطنها إلى يوم يبعثون!».
«سأترحم حينها على (خليج توبلي) وأهنأ بـ (لؤلؤة توبلي) التي رفعت رأس الوطن والمواطن عاليا بين سائر الأمم الأخرى!».
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1772 - الجمعة 13 يوليو 2007م الموافق 27 جمادى الآخرة 1428هـ