قد لا تحتاج الدول المتطورة أو المتجانسة اجتماعيا إلى ضابط يجمعهم قادر على تحريك الشعب أو على الأقل جزءا مهما منه. لكن هذا الضابط يكون عاملا رئيسيا موحدا للدول والشعوب التي يتهددها عدم التجانس بين مكونات الشعب من الناحية الاجتماعية أو الدينية أو الطائفية أو القومية أو حتى الاقتصادية.
العراق نموذج للدولة التي تحتاج الآن ربما أكثر من أي مرحلة سابقة إلى ضابط جمعي قادر على المساهمة في إدارة الشعب والسير به باتجاه تثبيت دعائم الدولة.
قلنا إن الضابط الجمعي قد يكون دينا أو قومية أو مذهبا أو شخصا أو ربما حتى فكرة يحاول الشعب أن يتشبث فيها، لكن هل هذا الضابط موجود في العراق، وما هو؟
بعد انهيار الأمبراطورية العثمانية ودخول العراق تحت الوصاية البريطانية، كان الضابط الجمعي للعراقيين هما القبيلة والدين، ولم يكن للوطن هناك معنى محدد قادر على جمع العراقيين تحت مظلته، بل كان الأقوى منه فكرة الدولة العربية التي أطلق شرارتها الأولى الشريف الحسين خلال الحرب العالمية الأولى، ومعها بدأ المثقفون العراقيون يحلمون بهذه الفكرة التي توجت باستقبال العراقيين فيصل وهو أحد أبناء الشريف الحسين في ميناء البصرة وإيصاله بمواكب مهيبة إلى بغداد، إذ كان أول ملك عربي للعراق، مفضلينه على الوجيه العراقي عبدالرحمن النقيب.
حينها كان فيصل أو سلالة الشريف الحسين تمثل بدرجة ما الضابط الجمعي للعراقيين من سنة وشيعة وعرب وأكراد وتركمان ومسيحيين وصابئة ويزيديين وغيرهم كثير من تلوينات المجتمع العراقي. ظل هذا الضابط مستمرا يعلو مرة خلال فترة حكم الملك غازي ويتصدّع مرات خلال وصاية عبدالإله على العرش، واستمر هذا الوضع لحين قيام ثورة 14 تموز التي قادها العسكريون بزعامة عبدالكريم قاسم، إذ انقلب ضابط العراقيين باتجاه ضوابط اخرى كانت موجودة قبل الثورة لكنها لم تكن بالوضوح الذي كانت عليه بعد 14 تموز، ومن بين هذه الضوابط الافكار والتنظيمات اليسارية والقومية، وعلى رغم كل هذه التيارات - او الضوابط المؤثرة في المجتمع العراقي - فإن قاسم استطاع أن يبني شعورا وحدويا تجاه الوطن - العراق، فكانت مقولته الشهيرة «العراق للعراقيين» إحدى مقومات هذا الضابط مترفعا بها على «الميول والاتجاهات» الأخرى كما كان يردد ذلك باستمرار.
بعد قاسم كان المد القومي هو الحاكم والضابط لمعظم العراقيين يتنافس معه لكن بدرجة أقل اليساريون بالإضافة إلى ضابطي الدين والعشيرة. بعد انقلاب البعثيين في العام 1968 لم يكن العراق قد وصل إلى مرحلة فقدان الضابط الجمعي بعد، بل كان هناك ضابط شبه جمعي يتمثل في المد القومي، ولم يتلاش هذا الضابط إلا خلال التسعينات من القرن الماضي، إذانتقل العراقيون شيئا فشيئا نحو ضابط الدين والطائفة وبعدهما القبيلة.
على رغم هذا التحول، إلا أن ما حصل للعراقيين بعد الغزو الأميركي، قد يكون هو الأخطر على صعيد ضابط المجتمع العراقي، ولهذه المرحلة قصة أخرى.
إقرأ أيضا لـ "علي الشريفي"العدد 1770 - الأربعاء 11 يوليو 2007م الموافق 25 جمادى الآخرة 1428هـ