العدد 1770 - الأربعاء 11 يوليو 2007م الموافق 25 جمادى الآخرة 1428هـ

لبنان بعد سنة على العدوان

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

مضت سنة على العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان ولم تتوصل الأطراف إلى صيغة مشروع لوقف إطلاق النار. فما حصل بعد صدور القرار الدولي 1701 هو «وقف العمليات الحربية». وهذا يعني أن استئناف الحرب وارد حين تتوافر الظروف الدولية أو الإقليمية أو عند حصول خطأ أو إذا قررت حكومة تل أبيب معاودة عدوانها بذريعة مختلقة.

هذه نقطة. النقطة الثانية لم ينجح لبنان حتى الآن في تجاوز ارتدادات العدوان السياسية والاقتصادية والعمرانية. فالبلد يمر بحالات من الجمود عطلت كل احتمالات التسوية بين قواه الفاعلة في وقت تبدو ساحته مفتوحة على تدخلات مشبوه فيها وشبكات مجهولة الهوية والعنوان.

النقطة الثالثة. إن جسور الثقة بين الأطياف (الطوائف) الأهلية لم ترمم. فالكل ينتظر ما ستكون عليه الوجهة الدولية وتلك الترتيبات السياسية المفترضة مع القوى الإقليمية المتصلة بتلك الملفات الساخنة (الملف النووي في إيران، احتلال العراق والانسحاب الأميركي، مشكلات فلسطين وتفرعاتها في لبنان والجولان). وهذا الانتظار يضع البلاد أمام استحقاقات دستورية خطيرة كانتخابات الرئاسة وتشكيل حكومة وفاقية.

النقطة الرابعة. كل المساعدات العربية ساهمت في منع الانهيار. فالعملة الوطنية حافظت على سعرها، والاقتصاد استمر ينشط في حده الأدنى. إلا أن المساعدات لم تكن كافية لإعادة الإعمار. فحجم الدمار هائل ويتطلب خطة عمل متكاملة لمنع الناس من مغادرة مناطقهم أو الهجرة بحثا عن مصادر رزق بديلة.

النقطة الأهم في المعادلة التي أنتجها العدوان كانت ولاتزال تدور حول الأزمة الدائمة بين مشروع الدولة وفكرة المقاومة وإمكانات التوفيق بينهما أو بقاء التجاذب بين المسارين إلى أن يحصل الانهيار.

هناك أزمة عامة ضربت لبنان. والأزمة لا تقلل من شأن صمود المقاومة ونجاحها في تسديد ضربات موجعة في العمق الإسرائيلي. إلا أن الفارق هو أن «إسرائيل» حاولت احتواء الأزمة وتجاوزها على حين لبنان فشل حتى الآن في توظيف ذاك الصمود التاريخي والجغرافي وإعادة استثماره لتوحيد الجبهة الداخلية. ما حصل اتجه نحو زاوية معاكسة للوحدة. وما نراه اليوم من صور وتعليقات وخطب ومناورات كلها إشارات تدخل على مظاهر أزمة تبدو عميقة في جذورها وفي فروعها.

مشاهد الأزمة اللبنانية كثيرة الوجوه ومتعددة المصادر. وما نراه اليوم في المخيمات وضفافها وفي الوسط التجاري وحوله وفي الجنوب وما يحيط به مجرد عينات عن صور تعكس تلك الانقسامات التي يتداخل فيها السياسي بالأهلي، والمحلي بالإقليمي. الدولة في لبنان ضعيفة في تركيبها باعتبارها تشكل هيئة تقليدية تمثل ذاك الائتلاف الطائفي/ المذهبي الذي يتكون منه هذا الكيان. وبسبب هذا التشكيل المتنوع تكاثرت العصبيات والأمزجة وتعددت مراكز القوى وتنوعت مصادر القرار.

ضعف الدولة تقليدي ومتوارث وليس جديدا. فالضعف بدأ منذ تأسيس الكيان في العام 1920. وتجدد الضعف بعد الاستقلال على رغم التوصل إلى صيغة أهلية تُوزع المقاعد الوزارية والنيابية ضمن تراتب هرمي طائفي/ مذهبي/ مناطقي يعطي الجميع حقوقهم. وشكّل هذا التوزيع نقطة قوة للتشكيلات الأهلية ولكنه زاد من ضعف الدولة التي أخذت تعتمد نظام علاقات يكرس توازن «المِلل والنِّحل» ويمنع قيام هيئة عليا توحد الناس في هوية وطنية مشتركة.

الخلل إذا قديم ولم يتأسس حديثا وفي ضوء التجاذب القائم حاليا بين مشروع الدولة وفكرة المقاومة. فالمقاومة لم تضعف دولة قوية وإنما ظهرت بسبب عدم قدرة الدولة على لعب دورها في الدفاع عن الأرض والناس. ولو كانت الدولة قوية سابقا وغير خاضعة إلى موازين القوى الميدانية والتجاذبات الأهلية لكان من الصعب أن يشهد لبنان تلك الأزمات الدائمة التي تغري القوى الإقليمية وتشجعها على التدخل في شئونه الداخلية سلما أو عنوة.

الخروج من الدائرة

هذا الخلل وضع البلد أمام سؤال: كيف نخرج من الدائرة؟ وما السبيل لبناء دولة في ظل مقاومة؟ ومن يقود الآخر (الدولة أم المقاومة)؟ وكيف يمكن أن تتوزع الأدوار؟ وهل هناك مساحة للتعايش بين مشروع دولة يتعرض لاعتداءات إسرائيلية وتداخلات إقليمية وفكرة مقاومة لا يمكن لها أن تستمر من دون تنسيق مع مراجعها الرسمية؟

هناك أزمة حقيقية يمرّ بها لبنان وأخذت حديثا تزعزع استقراره وتهدد كيانه وتبعثره إلى جزر أمنية أهلية على نمط كونفيديراليات العراق. والمشكلة لا تقتصر على ذاك التجاذب المحلي بين مشروع الدولة وفكرة المقاومة وإنما تمتد إلى الخارج نظرا إلى تلك التداخلات الإقليمية والاعتداءات الإسرائيلية. ففي كل فترة يتعرض الكيان لهجمات وضربات تهدم ما بناه خلال سنوات. وبعد إعادة الإعمار يواجه مرة أخرى اعتداءات تحطم ما بناه من جديد... وهكذا.

مسألة التعايش بين الدولة والمقاومة انتقلت بعد التحرير في العام 2000 إلى خط تماس ساهم في توتير العلاقة بسبب اختلاف قواعد اللعبة الدولية بعد انسحاب الاحتلال وانكفاء قواته إلى وراء الخطوط الدولية.

اختلاف قواعد اللعبة أسّس تعاملات جديدة بين الأمم المتحدة ودولة لبنان. فالقانون الدولي يعترف بسيادة الدولة ولا يعترف بشرعية المقاومة نتيجة انتفاء أسبابها. والقانون الدولي يعتبر أن أي حادث تتحمّل مسئوليته الدولة وكل عملية تتحمّل مسئوليتها الدولة بغض النظر عن الجهة التي ارتكبت الأفعال أو افتعلت الحوادث. والقانون الدولي يعترف بالنظام ولكنه لا يأخذ في الاعتبار تلك التوازنات الأهلية التي تأسس عليها الكيان. وبحسب القانون الدولي لا توجد لديه تسميات إلا دولة لبنان. وكل ما يقع في هذه المساحة هو لبنان وتحت السيادة اللبنانية.

النظام اللبناني طائفي. فهناك مقاعدُ لكل مذهب ومنطقة ولكن القانون الدولي لا يقيم لهذا النوع من التسويات أي اعتبار. وتوزع الطوائف في لبنان موجود في مختلف المناطق ولكن القانون الدولي يعتبرها مناطقَ لبنانية.

بكلام آخر، كل فعل أو عمل أو تحرك في لبنان تتحمّل مسئوليته الدولة أمام القانون الدولي وليس الطائفة أو المذهب أو المنطقة. فالخيام لبنانية وليست شيعية. كذلك بنت جبيل والنبطية. جونيه لبنانية وليست مارونية. طرابلس لبنانية وليست سنية. وعاليه لبنانية وليست درزية. وهكذا.

بناء على هذا التوصيف الذي يعتمده القانون الدولي تستغل «إسرائيل» أي حادث يحصل على الحدود أو في أي مكان لتوجيه الاتهام للدولة وتحميلها المسئولية واتخاذ المسألة ذريعة لتسديد ضربات تحطم البنى التحتية بهدف زرع الفوضى وزعزعة الاستقرار وتهديد الأمن الوطني ودفع الطوائف إلى الاقتتال.

تَكرار الأمر (العدوان) أنهك فعلا البلد وزاد من ضعف دولته المشلولة أصلا وأفسح المجال لنمو نزعات متشددة في طبيعتها المذهبية ومتطرفة في تشنجاتها العصبية والسياسية. والآن وبعد 7 سنوات على التحرير وبعد سنة على العدوان نهض السؤال مجددا: كيف يمكن التوفيق أو الجمع بين مشروع الدولة وفكرة المقاومة؟ والسؤال فتح بدوره الباب أمام أسئلة متنوعة مثل إمكان استمرار المعايشة بين دولة ومقاومة في مكان واحد وفترة واحدة؟ وهل تترك الدولة مشروعها وتتخلى عنه مفسحة المجال لنمو فكرة المقاومة، أم تتخلى المقاومة عن فكرتها تاركة الساحة لمشروع الدولة؟

هذه الأسئلة تشبه تلك الصور التي نراها يوميا على شاشات التلفزة والفضائيات. وهي تعكس في داخلها تلك الأزمة بين دولةٍ تبحث عن مشروعها ومقاومةٍ تدافع عن فكرتها في إطار نظام عربي ضعيف غير قادر على تحمّل مسئولياته القومية وإعادة هيكلة استراتيجية الدفاع ضد «إسرائيل».

تبدو احتمالات التسوية صعبة وليست مستحيلة. والصعوبات تكمن في أن القانون الدولي يضع شروطه وسقفه ويرسم خطوط السيادة. وبسبب هذا الأمر المعطوف على تشكيلة أهلية طائفية ومذهبية تعطل بدورها على الدولة القيام بواجباتها خارج منظومة «المِلل والنِّحل» يُرجح أن تتجه العلاقات الداخلية إلى نوع من البلورة وربما الحسم نحو خيار من ثلاثة: دولة تقود المقاومة، مقاومة تقود الدولة، أو انقسام الكيان إلى مراكز قوى تتشكل في ضوء تجاذباتها الأهلية استقطابات سياسية تدفع الساحة إلى هيئتين: واحدة للدولة وأخرى للمقاومة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1770 - الأربعاء 11 يوليو 2007م الموافق 25 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً