مرة بالترغيب وأخرى بالترهيب، وكلا الطريقين لم يفلح من خلالهما شاه إيران في الوصول مع السيدعلي كمال الدين إلى نقطة تفرغه من وطنيته التي جعلت منه شخصية عامة تخطت حدود الطائفة والمذهب، فصارت للوطن كل الوطن... هذا هو العبق الذي كان يفوح من بين مفردات نجله الأكبر محمد حسن كمال الدين عندما أخذ يسرد لـ «الوسط» مواقف والده المتصلبة والمتشددة من أطماع الشاه، ومحاولاته المتكررة لاستمالة السيدعلي في كفته عندما كان يصر على «تفريس» البحرين، وانتزاعها من عروبتها الضاربة بجذورها في قلب التاريخ.
من بين ما كشف وزير الدولة السابق محمد حسن كمال الدين بين طيات حديثه سرا كان وثقه في كتابه «على ضفاف الوطن» والذي هو في طريقه إلى الصدور قريبا وكان ذلك السر هو أن شاه إيران عرض على والده وكان حينها في النجف الأشرف بالعراق مقعدا في العام 1957م كممثل عن «اللواء الرابع عشر» ويقصد بذلك البحرين، الأمر الذي رفضه كمال الدين رفضا قاطعا ما جعل الشاه يلجأ إلى أساليب الترهيب بعد فشل أساليب الترغيب، وكلاهما كانا فاشلين معه.
وفي اللقاء مع محمد حسن كمال الدين قلل من شأن تصريح مدير مؤسسة «كيهان» الصحافية حسين شريعتمداري الذي ذكر فيه أن البحرين كانت جزءا من الأراضي الإيرانية وانفصلت عنها إثر تسوية وصفها بـ «غير القانونية» إذ رد على هذا الادعاء بحجج قانونية جاء ذكرها في هذا اللقاء بالتفصيل:
كيف كانت حدود الدولة الفارسية، وما هي الفواصل التي تفصلها عن الخليج العربي، وباقي الدول العربية؟
- كمال الدين: بداية فإن التاريخ يحدثنا على أن الدولة الفارسية كانت هي ما وراء الجبال، ولم تكن حدودها متصلة بالخليج العربي، ولكن في القرن السادس قبل الميلاد زحفت الدولة الفارسية من وراء الجبال واحتلت الساحل الشرقي للخليج العربي كاملا من المحمرة إلى بلوشستان، وفي مطلع القرن العشرين توجت ذلك الاحتلال باستيلائها على ولاية المحمرة وأسمتها خوزستان، وكانت ومازالت هي الكنز للثروة النفطية، وكان هذا الساحل تقطنه كثير من القبائل العربية، والتاريخ ينطق صراحة أن البحرين لم تكن جزءا من الأراضي الفارسية في أي يوم من الأيام، ومن يطلع على تاريخ حضارة دلمون وحضارة تايلوس يرى أن جزر البحرين كانت جزءا مكملا للبحرين الكبرى، التي كانت في الزمان القديم تشمل معظم الساحل الشرقي للجزيرة العربية، وفي الدولة الإسلامية وخصوصاَ أيام الخلفاء الراشدين كان معظم الخَراج والثروة العظيمة التي ملأت خزائن الدولة الإسلامية تأتي من خَراج ولاية البحرين، وأيضا يحدثنا التاريخ أن أول فتح بحري للدولة الفارسية خرج من البحرين، وهذه حقائق تاريخية تدحض كل الادعاءات التي سطرتها أقلام المؤرخين الفرس.
عفوا... ولكن من بين ما ذكره مدير مؤسسة كيهان الصحافية الإيرانية حسين شريعتمداري أن البحرين كانت جزءا من الأراضي الإيرانية وانفصلت عنها إثر تسوية وصفها بـ «غير القانونية» كيف تعلقون على ذلك؟
- كمال الدين: فيما يتعلق بتصريح شريعتمداري من أن التسوية لم تكن قانونية بين الشاه وحكومات الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا فإن شعب البحرين قال كلمته في العام 1970 عندما حضر ممثل الأمين العام للأمم المتحدة وينسبير واستمع إلى رأي معظم أبناء البحرين، وذهب إلى كل قرية ومدينة، وسمع من أبناء البحرين عموما أن البحرين دولة عربية وليست تابعة لإيران بأي شكل من الأشكال، وأن أبناء البحرين بمختلف طوائفهم يرفضون الادعاءات الإيرانية ويرغبون في رؤية بلادهم دولة مستقلة ذات سيادة وهي جزء من الوطن العربي الكبير، ووافق حينها العالم كله على تقرير مندوب الأمم المتحدة الذي رفعه إلى مجلس الأمن بتاريخ 30 أبريل/ نيسان 1970م الذي على إثره اعترف العالم باستقلال البحرين.
ولكن كيف ترد تحديدا على أن ما حدث في العام 70 غير قانوني؟
- كمال الدين: نعم أنا في طريقي للرد القانوني، وفي ذلك أقول: إن القرار الصادر عن معهد القانون الدولي، في دورته الأربعين المنعقدة في بروكسل العام 1936 أكد «أن الاعتراف بالدولة الجديدة عمل اختياري، تشهد بمقتضاه دولة أو عدة دول، بوجود جمع من الناس يقيم في إقليم محدد، ويخضع لنظام سياسي مستقل عن جميع الدول، وقادر على الالتزام بالواجبات التي ينص عليها القانون الدولي، وبذلك يكون الاعتراف انصراف إرادة الدول إلى إدخال الدولة الجديدة عضوا في الجماعة، فهو إذا عمل كاشف لا يؤثر رفض التصريح به في الآثار القانونية الناشئة عن وجود الدولة الجديدة.
ونظرية «الاعتراف الكاشف» التي أكدها هذا القرار تؤكد استبعاد التحكم، ولكونها قريبة جدا إلى منطق القانون ومقتضيات العدالة، فإن فقهاء القانون الدولي يذهبون إلى «أن الاعتراف لا يعتبر عملا إعلانيا فقط، بل يملك أهمية في ما يتركه من آثار سياسية وقانونية، فهو بالإضافة إلى كونه يعلن عن حقيقة ظهور دولة جديدة، أو حكومة جديدة، يساعد على تقوية المركز الدولي للدولة، أو الحكومة، بما يرتبه من آثار في مجال حقوقها الأساسية النابعة من وجودها، وليس من عمل الاعتراف بها، ويرون أن الاعتراف يجب ألا يقرر بعيدا عن مبدأ المساواة وحق تقرير المصير، كما أنهم ينظرون إلى الاعتراف، كعمل إلزامي للدولة، إذ إن الدولة التي استوفت جميع شروط مقوماتها، يجب الاعتراف لها بالكيان القانوني، أما عدم الاعتراف بها، فهو عمل يتناقض ومبادئ الأمم المتحدة، المثبتة في (الفقرة الثانية والفقرة الثالثة من المادة الأولى)، التي تؤكد على تطوير علاقات الصداقة بين الأمم، وتنمية التعاون بينها لحل المشكلات الدولية. وتكمن أهمية الاعتراف العالمي بالأهلية الدولية التي اكتسبتها دولة البحرين (مملكة البحرين) بأنه سند قانوني لا يجيز لأحد التنصل عنه، كما أنه اعتراف حاسم ومؤكد على توافر جميع الشروط الموضوعية لكيان «دولة البحرين»، بسبب استكمالها للعناصر المكونة لها وفقا لقواعد القانون الدولي، مع ما تملكه من الوفاء بجميع الالتزامات والحقوق ضمن المنظومة العالمية، واحترام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ولكن هل لي أن أعرف دور والدكم السيدعلي كمال الدين في تأكيد عروبة البحرين، والوقوف في وجه أطماع الشاه؟
- كمال الدين: لقد ذكرت في كتابي «على ضفاف الوطن» الذي سيصدر خلال الأيام القليلة المقبلة بعض الأسرار التي لا يعرفها كثير من المواطنين والمهتمين بتاريخ البحرين، أهمها ما تعرض له والدنا يرحمه الله في الأشهر الأولى من وصوله إلى النجف الأشرف وخصوصا العام 1957 من محاولات عناصر من جهاز المخابرات الإيرانية (السافاك) المرسلين من قبل شاه إيران في ذلك الوقت، إذ أبلغوا والدي أن جلالة الشاه يدعو السيدعلي كمال الدين لتسلم مقعده في البرلمان الإيراني لتمثيل اللواء الرابع عشر ويقصد به البحرين، وكانت المرة الأولى من زيارتهم تحمل كثيرا من الإغراءات لكن والدي رفض رفضا قاطعا أن يكون سببا في إعطاء الشاه مسوغات قانونية من خلال شخص السيدعلي كمال الدين لتثبيت ادعاءاته في البحرين وأرسل رسالة شفهية بواسطة هؤلاء الأشخاص الذين كان أحدهم يتحدث اللغة العربية وكانت تلك الرسالة الشفهية عبارة عن اعتذار إلى الشاه ولكن بعد مدة بسيطة عاود هؤلاء الأشخاص زيارته بحجة زيارتهم إلى العتبات المقدسة في النجف وحملوا معهم هذه المرة بالإضافة إلى الإغراءات أحد أساليب الشاه في التهديد المبطن إذ قالوا له بالحرف الواحد «إن يد الشاه طويلة وتستطيع أن تصل إلى أي شخص يعصيه أو يخالفه، فما كان من والدنا إلا تعليق الحديث معهم وتوديعهم ثم بعد ذلك قابل الرئيس نور السعيد، وقص عليه الحكاية وقال له نور السعيد بالحرف الواحد «أنت في بلاد آمنة وكن مطمئنا أنه لن يعتدي عليك أحد» وبصورة فعلية أرسل نور السعيد حراسا سريين لحراسة منزل والدنا في منطقة الحويش في النجف الأشرف.
كيف تصف هذا الموقف من والدكم؟
- كمال الدين: موقف والدنا هذا نابع من معرفته الحقيقية لتاريخ البحرين وتاريخ أبناء البحرين، ونابع أيضا من حبه العميق لوطنه على رغم ما قاساه من قسوة الانجليز وقسوة المنفى لمدة 14 عاما!
ولكن لو عدنا لما قاله شريعتمداري، برأيك كيف يجب أن يتم التعاطي من هذا التصريح؟
- كمال الدين: أنا أعتقد أن أصحاب القرار في مملكة البحرين، يتمتعون بحصافة الرأي والقدرة على التعاطي رسميا مع مثل هذه التصريحات، وقد مروا بمثل هذه التجارب وبصورة فعلية أتصور أن المسئولين في الجمهورية الإسلامية سيتنصلون من مثل هذه التصريحات وخصوصا أنها لم تصدر عن دائرة رسمية في لإيران.
وعلى الصعيد الوطني كيف يمكن لنا أن نتصور الأثر الذي يمكن أن يتركه هذا التصريح؟
- كمال الدين: ما يؤكده لنا التاريخ هو أن الأزمات في هذا البلد توحد الصفوف، وأن شعب البحرين سمع أسوأ من هذه التصريحات وتجاوزها من خلال توحده، ودعمه لتوجهات الدولة، لأن قوة البلاد تكمن في قوة توحده وهنا يجدر بي أن أورد مثالا حيا من تاريخ البحرين المعاصر، وذلك حين سمع صاحب السمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة عبارات التهديد من رئيس الوفد المفاوض في جنيف العام 1970 وبحضور المندوب البريطاني اتخذ موقفا حازما إذ قال لرئيس الوفد الإيراني الذي هدد باحتلال البحرين: «تستطيعون أن تحتلوا البحرين ولكن على آخر قطرة من دم آخر مواطن في البحرين» ثم انسحب من الاجتماع إلا أن المباحثات عادت من جديد بعد أن قدم رئيس الوفد الإيراني اعتذاره بتعليمات من الشاه إلى سمو رئيس الوزراء والوفد البحريني المفاوض، هذا الموقف يعطي دلالة واضحة على تماسك شعب البحرين وحكومته، وأنا لا أشك في أن جلالة الملك وسمو رئيس الوزراء وسمو ولي العهد يدركون المعاني الحقيقية لترابط شعب البحرين في أوقات الشدة.
العدد 1770 - الأربعاء 11 يوليو 2007م الموافق 25 جمادى الآخرة 1428هـ